به العصاة لا نخلفه ، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة. فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب. (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة ، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لأهل طاعته (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) مع سعة رحمته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته.
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩)
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إخبار بما سوف يقولونه ، (١) ولما قالوه قال (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) يعنون بكفرهم وتمردهم (٢). أن شركهم وشرك
__________________
(١) قال محمود : «هذا إخبار بما سوف يقولونه ... الخ» قال أحمد : وفائدته توطين النفس على الجواب ومكافحتهم بالرد وإعداد الحجة قبل أوانها ، كما قال (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ).
(٢) عاد كلامه. قال : فلما وقع ذلك منهم قال (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) يعنون بكفرهم ... الخ» قال أحمد رحمه الله : قد تقدم أيضا الكلام على هذه الآية ، وأوضحنا أن الرد عليهم ، إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم ، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار ، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك ، فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم ، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك ، وأن الحجة البالغة له لا لهم بقوله (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) ثم أوضح تعالى أن كل شيء واقع بمشيئته ، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم ، وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون ، بقوله (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) والمقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد ، وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة ، بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها ، وهم الفرقة المعروفون بالمجبرة. والمصنف يغالط في الحقائق فيسمى أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختياراً وقدرة ، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية ، مميزة بينها وبين أفعاله القسرية ، فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة ، ويجعله لقبا عاما لأهل السنة. وجماع الرد على المجبرة الذين ميزناهم عن أهل السنة في قوله تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ـ إلى قوله ـ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين ، فلم تقع من أكثرهم. ووجه الرد أن «لو» إذا دخلت على فعل مثبت نفته ، فيقتضى ذلك أن الله تعالى لما قال (فَلَوْ شاءَ) لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم ، ولو شاءها لوقعت ، فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم ، فإذا ثبت اشتمال الاية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها ، فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها ، فان أولها كما بينا يثبت للعبد اختياراً وقدرة ـ