آبائهم ، وتحريمهم ما أحل الله ، بمشيئة الله وإرادته. ولو لا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ، كمذهب المجبرة بعينه (١) (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى جاءوا بالتكذيب المطلق ، لأنّ الله عزّ وجلّ ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله ، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) وهذا من التهكم ، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) في قولكم هذا (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون. وقرئ (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بالتخفيف (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) يعنى فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم (٢) (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) منكم ومن مخالفيكم في الدين ، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضى أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته ، فتوالوهم ولا تعادوهم ، وتوافقوهم ولا تخالفوهم ، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.
(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١٥٠)
(هَلُمَ) يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين. وبنو تميم تؤنث وتجمع. والمعنى : هاتوا شهداءكم وقرّبوهم. فإن قلت : كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين
__________________
ـ على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان ، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد ، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الالهية خيراً أو غيره ، وذلك عين عقيدتهم ، فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة ، يسلبون تأثيرها ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ملزم له بالطاعة على وفق اختياره ، ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضاً وقدرته في أفعال عباده ، فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز ، يثبتون ما أثبت ، وينفون ما نفى ، مؤبدون بالعقل والنقل ، والله الموفق.
(١) قوله «كمذهب المجبرة بعينه» يعنى أهل السنة ، من أن كل كائن فهو مراد له تعالى ولو شراً. وتحقيق الفرق بينه وبين قول المشركين في علم التوحيد ، ويكفى فيه أن قولهم من باب التهكم ، كما قالوا لما قيل لهم (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ). (ع)
(٢) قوله «على قود مذهبكم» لعله من قاد الفرس ونحوه قوداً ، إذا جره بسهولة ، أى على طبق مذهبكم ، أى على مقتضاه وما يؤدى إليه. (ع)