والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال : لما نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، وقرأ سعيد بن المسيب : «يطيقونه» بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية. ومجاهد وعكرمة «يطّيقونه» بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي ، وقد جعلت الواو ياء فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه ، وعائشة رضي الله تعالى عنها «يطوقونه» بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا ، وعنه «يتطوقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه ـ بإدغام التاء في الطاء ـ وذهب إلى عدم النسخ ـ كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما ـ وقال : إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم ، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم ، وهو مبني على أن ـ الوسع ـ اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة ـ والطاقة ـ اسم للقدرة مع الشدة والمشقة ، فيصير المعنى (وَعَلَى الَّذِينَ) يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا ، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه ، وجاز أن تكون ـ الهمزة ـ للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه ، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك ـ كما في الكشف ـ والحق أن كلّا من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ ، وعلى ما لا يحتمله ـ ولكل ذهب بعض ـ وروي عن حفصة أنها قرأت (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) وقرأ نافع وابن عامر بإضافة (فِدْيَةٌ) إلى ـ الطعام وجمع المسكين ـ والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه ـ كخاتم فضة ـ لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها ، وجمع المسكين لأنه جمع في (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) فقابل الجمع بالجمع ، ولم يجمع (فِدْيَةٌ) لأنها مصدر ـ والتاء فيها للتأنيث لا للمرة ـ ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع.
(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) بأن زاد على القدر المذكور في ـ الفدية ـ قال مجاهد : أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدا ـ قاله ابن عباس ـ أو جمع بين الإطعام والصوم ـ قاله ابن شهاب.
(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي التطوع أو الخير الذي تطوعه ، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر ـ خرت يا رجل وأنت خائر ـ أي حسن ، والخير الثاني اسم تفضيل ـ فيفيد الحمل أيضا بلا مرية ـ وإرجاع الضمير إلى (مِنْ) أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده (وَأَنْ تَصُومُوا) أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء ، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز ، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين ، والمرضى والمسافرين ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة ، وقرأ أبيّ والصيام (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية أو تطوع الخير على الأولين ، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في الصوم من الفضيلة ، وجواب (أَنْ) محذوف ثقة بظهوره ـ أي اخترتموه ـ وقيل : معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم (خَيْرٌ لَكُمْ) من ذلك ، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم ، وعلى الأول تأسيسا.
(شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ خبره الموصول بعده ، ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله ، أو (فَمَنْ شَهِدَ) والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه ، أو المكتوب شهر رمضان ، أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف ، أي كتب عليكم الصيام