والمقصود الحث على المخالطة المشروعة بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين ؛ وبذلك قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وأخرج عبد بن حميد عن المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته ، واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة ، وأيد بما نقله الزجاج كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزوج بهم فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى : (فَإِخْوانُكُمْ) ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل : المخالطة المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك ، ولا يخفى أن ما نقله الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في كتاب يعول عليه ، والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها بخلط نفسه وأن المناسبة والانتظام حاصلان بدخول المصاهرة في مطلق المخالطة (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ) في أمورهم بالمخالطة (مِنَ الْمُصْلِحِ) لها بها فيجازي كلّا حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم ، وقدم المفسد اهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد ، وقيل : للاستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا ، وكلمة (مِنَ) للفضل وضمن يعلم معنى يميز فلذا عداه بها (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم ، أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ وأصل الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا ، ويقال : عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر ، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه ، وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضا ، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم (حَكِيمٌ) فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف ، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات ـ أي ولو شاء لأعنتكم لكونه غالبا ـ لكنه لم يشأ لكونه حكيما. وفي الآية ـ كما قال الكيا ـ دليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح ، وفيها دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم. وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث رجلا من غني يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت : ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال لها : إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت : نعم فقال إذا رجعت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له : أبي تتبرم؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا