بطيرا ـ والمراد بأمر الله ، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليهالسلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليهالسلام وهو روح محض ـ كما قيل ـ بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء ، قيل : وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب ، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول قالوا : إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا : ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا ، ويحيض ، ويلد ، ويطير بغير ريش ، وله آذان ، وثدي ، وضرع ، ويخرج منه اللبن ، ويرى ضاحكا كما يضحك الإنسان ، ولا يبصر في ضور النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش ، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس ، قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة ، وقيل : خلق أنواعا من الطير.
وذهب بعضهم إلى الثاني فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق أن عيسى عليهالسلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا ، ثم قال : أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا : أو تستطيع ذلك؟ قال : نعم بإذن ربي ، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه ، ثم قال : كن طائرا بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه ، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) عطف على (أَخْلُقُ) فهو داخل في حيز (أَنِّي) و (الْأَكْمَهَ) هو الذي ولد أعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة ، قيل: ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير ، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل ، وعن عكرمة أنه الأعمش أي أخلص (الْأَكْمَهَ) من الكمه (وَالْأَبْرَصَ) وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه ، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليهالسلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر ، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاغة ، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما لقد روى أنه عليهالسلام أبرأ أيضا غيرهما ، وروى عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليهالسلام من المرضى خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليهالسلام فمشى إليه ، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم «اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير» ومن خواص هذا الدعاء ـ كما قال وهب ـ أنه إذا قرئ على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى ـ (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) عطف على خبر (أَنِّي) وقيد الأحياء بالاذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه ـ يا حي يا قيوم ـ وخبر «إنه كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى تبارك الذي بيده الملك ، وفي الثانية تنزيل السجدة فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم