أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها ، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه ـ كجئت خفوق النجم ، وصياح الديك ـ ولا يجوز إن خفق وإن صاح.
وأجيب باعتبار الوقت ممتدا ، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن «ما» المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح ، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في شرح الكتاب ، والحق أن التعليل لما أمكن ـ وهو متفق عليه ـ خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام ـ قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور ـ في غاية من التعسف ، والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع ، أو على أن الله تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح ـ ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان ، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير (آتاهُ) لإبراهيم عليهالسلام لأنه تعالى قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] وقال سبحانه : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤] وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي ـ ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح ، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليهالسلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر.
وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي ، وإيجاب الطاعة على الخلق ، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان ، والقول : بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول ، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال ، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب ـ والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ـ وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ظرف لحاج ، وجوّز أن يكون بدلا من آتاه بناء على القول الذي علمت ، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليهالسلام (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له ـ وقد كان أوتي قبل الملك من ربك الذي تدعو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في (آتاهُ) وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا ، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن المصدرية ، وقد جاء ذلك ، وقال الحلبي : ـ وهذا بناء ـ منه على أن إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل ـ غلط بل بدل كل من كل ، وفيه ما تقدم من الكلام ، وقيل : يجوز أن يكون بدلا من (آتاهُ) بدل اشتمال ، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال ، وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك ، ومن هنا قيل : إن الظرف متعلق بقوله سبحانه : (قالَ أَنَا) إلخ ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل : كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب ، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء ، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه : (حَاجَ) ، و (رَبِّيَ) بفتح الياء ، وقرئ بحذفها ، وأراد عليهالسلام ـ بيحيي ويميت ـ يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال : ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا