و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بلفظ (عِباداً) لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا ـ كما قال الجبائي ـ فإن التجاوز متحقق فيهما حتما ، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى.
(وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) إثبات لما نفي سابقا ، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل : ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين ، فالفعل هنا منصوب أيضا عطفا عليه ، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول ، وقيل : يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) وفسر علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس الرباني بالفقيه العالم ، وقتادة. والسدي بالعالم الحكيم ، وابن جبير بالحكيم التقي ، وابن زيد بالمدبر أمر الناس ـ وهي أقوال متقاربة ، وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح.
وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه وهو منسوب إلى الرب كإلهي ، والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرا ـ كلحياني ـ لعظيم اللحية ، والجماني لوافر الجمة ، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة ، وقيل : إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربى (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) الباء السببية متعلقة ـ بكونوا ـ أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له ، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر ، وقيل : متعلقة ـ بربانيين ـ لأن فيه معنى الفعل ، وقيل بمحذوف وقع صفة له ـ والدراسة ـ التكرار يقال : درس الكتاب أي كرره ، وتطلق على القراءة ، وتكرير (بِما كُنْتُمْ) للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم ، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر «كان» مضارعا بالفضل ، وتحصيل الربانية ، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها ، أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم ، والثاني لمن دونهم ، وقيل : لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن ، ومتعلق الدراسة الفقه ـ وفيه بعد بعيد ـ وإن أشعر به كلام بعض السلف.
وقرأ نافع ، وابن كثير ، ويعقوب ، وأبو عمرو ، ومجاهد «تعلمون» بمعنى عالمين ، وقرئ «تدرّسون» بالتشديد من التدريس ، وتدرسون من الإدراس بمعناه ، ومجيء أفعل بمعنى فعل كثير ، وجوز كون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس.
(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، ويعقوب «ولا يأمركم» بالنصب عطفا على يقول ، (وَلا) أما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل ، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة (وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) فهو كقولك : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي ، وإما غير زائدة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة ، والمسيح ، وعزير عليهمالسلام فلما قيل له : أنتخذك ربا؟ قيل لهم : «ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له : ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي» وعلى هذا يكون المقصود ـ من عدم الأمر ـ النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ ، بالمقصود وأوفق للواقع ، وقرأ باقي السبعة (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بالرفع على الاستئناف ، ويحتمل الحالية ، وقيل : والرفع على الاستئناف أظهر ، وينصره قراءة «ولن يأمركم» ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي ، وبأن العطف يستدعي تقديمه على (لكِنْ) وكذا الحالية أيضا.
وقرئ بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراءات ضمير الفاعل عائد على ـ بشر ـ وجوز