مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا أو حالا ، وقيل : متعلق بحرم ، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه ، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجا وتضييقا ، واختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف ، والتقدير (كانَ حِلًّا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل : متى كان حلا؟ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيدا للحل.
ولا يخفى ما فيه ، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم ، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعي عليهم قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) [النساء : ١٦٠] وقوله سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) [الأنعام : ١٤٦] الآيتين ، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالا لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلىاللهعليهوسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليهالسلام على ما دل عليه سبب النزول.
وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب عليهالسلام ، وقال الكلبي : لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة ، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم. فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا وصب عليهم رجزا ، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئا من ذلك في التوراة ولا بعدها ، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله ، وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها ، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا.
وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة (فَمَنِ) عبارة عن أولئك اليهود ، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذ دخولا أوليا ، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال : فرى الأديم يفريه فريا إذا قطعه ، واستعمل في الابتداع والاختلاق ، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة (فَأْتُوا) فتدخل تحت القول ، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة.
(فَأُولئِكَ) أي المفترون المبعدون عن عز القرب (هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم ، وقيل : هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية ـ مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال ـ للدلالة على كمال القبح ، وقيل : لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل ، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب