المحال عندنا جواز التكليف بالخلق المذكور ، ولنا أن نفرق بأن ترك الإيمان إنما هو بقدرته بخلاف عدم الجواهر والأعراض فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها ، وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون الشيء أو ضده متعلقا للقدرة ، وهذا حاصل في الإيمان لأن تركه لتلبسه بضده مقدور له حال كفره بخلاف إحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له أصلا لا فعلا ولا تركا فلا يجوز التكليف به ، وأما ما ذكر من قضية الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد أقيمت الأدلة على بطلانهما في محله كذا في المواقف وشرحه.
ودليل ما شاع عن الأشعري قيل : هو أن القدرة عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية فيجب أن تكون مقارنة للفعل بالزمان لا سابقة عليه وإلا لزم وقوع الفعل بلا قدرة لما برهن عليه من امتناع بقاء الأعراض ؛ واعترض عليه بما في أدلة امتناع بقاء الأعراض من النظر القوي وأنه قد يقال على تقدير تسليم الامتناع المذكور لا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة؟ وأجيب بأنا إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة ، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال تقع حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان.
وفيه أن هذا قول بأن نفي وجود المثل السابق ليس داخلا في دعوى الأشعري وهو خلاف ما علم مما تقدم في تقرير مذهبه ، وذكر في المواقف دليلا آخر للأشعري على ما ادعاه ونظر فيه أيضا ـ هذا كلامهم ـ والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة الإرادة الله تعالى لقوله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في عيون الجواهر ، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في شفاء العليل ، ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهى عنه من لا يقدر على الاجتناب فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلا ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل ، والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها ، وبهذا جمع الإمام الرازي ـ كما في المواقف ـ بين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل ، والمعتزلة القائلين بأنها قبله ، وقال : لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين ، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح ، وقول السيد قدسسره ـ في توجيه البحث الذي ذكره صاحب المواقف فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال : إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير ـ مدفوع بما تبين في الإبانة التي هي آخر مصنفاته.
والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد بن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالا كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده ، وأما قوله في شرح المواقف : إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد