والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس ، وأنزل الله تعالى في شأن شماس ، وما صنع (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ) إلى قوله سبحانه : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا) الآية ، وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهر اليهود.
وقيل : المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) جملة حالية العامل فيها تكفرون وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مرّ غير مرة والشهيد العالم المطلع ، وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد بمعنى الشاهد تكلف لا داعي إليه ، وما إما عبارة عن كفرهم ، وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأي سبب تكفرون ، والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلا (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ) أي تصرفون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام (مَنْ آمَنَ) أي بالله وبما جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للاهتمام به (تَبْغُونَها) أي السبيل (عِوَجاً) أي اعوجاجا وميلا عن الاستواء ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض ، ومنه (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتصب كالقناة والحائط مثلا وهو أحد مفعولي ـ تبغون ـ فإن بغى يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر باللام كما صرح به اللغويون وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله :
فتولى غلامهم ثم نادى |
|
أظليما أصيدكم أم حمارا |
أراد أصيد لكم ، وقال ابن المنير : الأحسن جعل الهاء مفعولا من غير حاجة إلى تقدير الجار ، و (عِوَجاً) حال وقع موقع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس المعوج ، وادعى الطيبي أن فيه نظرا إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون (عِوَجاً) هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلا بد من تقدير : الجار وفيه تأمل وقيل : (عِوَجاً) حال من فاعل ـ تبغون ـ والكلام فيه كالكلام في سابقه ، وجملة ـ تبغون ـ على كل حال إما حال من ضمير (تَصُدُّونَ) أو من ـ السبيل ـ وإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد ، والأكثرون على أنه كان بالتحريش والإغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضا ، والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم وإعادة الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل : لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله لربما توهم أن التوبيخ على مجموع الأمرين ، وقيل : الخطاب لأهل الكتاب مطلقا وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ـ وإلى هذا ذهب الحسن وقتادة ـ وعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا : لا فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذم لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال.