بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه الوجوه اللطيفة كما لا يخفى ، و (مَنْ) مبتدأ و (يَغْفِرُ) خبره والاسم الجليل بدل من المستكن في يغفر أو فاعل له (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) عطف على (فَاسْتَغْفَرُوا) أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم ، وأصل الإصرار الشد من الصر ، وقيل : الثبات على الشيء ، ومنه قول الحطيئة يصف الخيل :
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا |
|
غلالتها بالمحصدات (أصرت) |
ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة ، والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا المعنى هنا لئلا يتكرر ما في المفهوم مع ما في المنطوق ، فلعله فيه بمعنى الإقامة ، وإذا حمل الاستغفار على مجرد طلب المغفرة فقط كان هذا مشيرا للتوبة التي هي ملاك الأمر إلا أنه قدم الاستغفار لأنه دال عليها في الظاهر ، وإذا حمل على الحال الذي ينضم إليه التوبة كان هذا تصريحا ببعض ما أريد منه إشارة إلى الاعتناء به كما قالوا في ذكر الخاص بعد العام ، أخرج البيهقي عن ابن عباس موقوفا «كل ذنب أصر عليه العبد كبير وليس بكبير ما تاب منه العبد» وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر مرفوعا ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين» (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قيل : الجملة حال من ضمير ـ استغفروا ـ وفيه بعد لفظي ، والمشهور أنها حال من ضمير ـ أصروا ـ ومفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف أي يعلمون قبح فعلهم ، وقد ذكر أن الحال بعد الفعل المنفي وكذا جميع القيود قد يكون راجعا إلى النفي قيدا له دون المنفي مثل ما جئتك مشتغلا بأمورك بمعنى تركت المجيء مشتغلا بذلك ، وقد يكون راجعا إلى ما دخله النفي مثل ما جئتك راكبا ، ولهذا معنيان : أحدهما و ـ هو الأكثر ـ أن يكون النفي راجعا إلى القيد فقط ويثبت أصل الفعل فيكون المعنى جئت غير راكب ، وثانيهما أن يقصد نفي الفعل والقيد معا بمعنى انتفاء كل من الأمرين بالمعنى في المثال لا مجيء ولا ركوب ، وقد يكون النفي متوجها للفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته.
قيل : وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون وهم (يَعْلَمُونَ) قيدا للنفي لعدم الفائدة لأن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل بل مع الجهل أولى ولا يصح أيضا فيها أن يتوجه النفي إلى القيد فقط مع إثبات أصل الفعل إذ ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم ، وكذا لا يصح توجهه إلى الفعل والقيد معا إذ ليس المعنى على نفي العلم ، والظاهر أن المناسب فيها توجهه إلى الفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته ، والمراد لم يصروا عالمين بمعنى أن عدم الإصرار متحقق البتة.
ولك أن تقول : لم لا يجوز أن يكون الحال هنا قيدا للنفي ويكون المعنى تركوا الإصرار على الذنب لعلمهم بأن الذنب قبيح فإن الحال قد يجيء في معرض التعليل.
وحديث إن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجعل فلا دخل لمضمون الحال في إيجاب الأجر؟ مجاب عنه بأنه ليس المقصود من ذكر الحال تقييد الإصرار بها لإيجاب الأجر حتى يرد عليه ما ذكر بل المراد مدحهم بأن تركهم الإصرار على الذنب لأجل أن فيهم ما هو زاجر عنه وهو علمهم بقبح الذنب فيكون مدح لهم بأن من صفاتهم التحرز عن القبائح ، وادعى بعض المتأخرين تعين كون الحال قيدا للمنفي وأن النفي راجع إلى القيد ، والمعنى لم يكن لهم الإصرار مع العلم بقبح الجزاء لأن المصر مع عدم العلم بالقبح لا يحرم الجزاء وغير المصر لكسالة أو لعدم ميل الطبع لا يبلغه لأن الجزاء على الكف لا على العدم وإلا لكان لكل أحد أجزية لا تتناهى لعدم فعل قبائح لا تتنامى لم تخطر بباله ، ولا يخفى ما في قوله : «وغير المصر» إلخ ، وقوله : «لأن الجزاء» إلخ