وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول ، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى (لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي ، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق ، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا (وَمَغْفِرَةٌ) أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه (خَيْرٌ) للسائل (مِنْ صَدَقَةٍ) عليه (يَتْبَعُها) من المتصدق (أَذىً) له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر ، وقيل : يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسئول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول (خَيْرٌ) للمسئول من تلك الصدقة ، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد ـ وعلى هذين الوجهين ـ ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه (خَيْرٌ) في الجملة مع بطلانها بالمرة ، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشيء ، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المنّ والأذى ، وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره ، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه ، وصح الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة ، وقد يقال : إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ. (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها بمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمنّ والأذى فلا يقبلها ، أو غني لا يحوج الفقراء إلى تحمل مئونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى (حَلِيمٌ) فلا يعجل بالعقوبة على المنّ والإيذاء لا أنهم لا يستحقونها بسببهما ، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه ، والمراد بالمنّ المنّ على الفقير كما تقدم وهو المشهور ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المنّ على الله تعالى ، وبالأذى الأذى للفقير ، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعى أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الابطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها ؛ ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة ، والآية أحد متمسكاتهم ، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم الله تعالى من صاحبها أنه يمنّ ويؤذي لا تقبل حتى قيل : إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها ، والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك ، فمعنى (لا تُبْطِلُوا) حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) فيه نوع تأييد له بناء على أن (كَالَّذِي) في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي إلخ وإما على أنه حال من فاعل (لا تُبْطِلُوا) أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء ، ووجه التأييد أن المرائي بالإجماع لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا ، وإنما أتي به باطلا مردودا ، وقد وقع التشبيه في البين فتدبر ، وانتصاب (رِئاءَ) إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم ؛ أو على أنه حال من فاعله أي