لاضمحلت تلك القوى وتلاشت واختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال.
وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب ، فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات ، ونصره المحبين بنعت المدانات ، ونصره العارفين بكشف المشاهدات ، وقد قيل : إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه و (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ)(١) لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات لاتصافه بصفات الله تعالى (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) وهو الغال المحتجب بصفات نفسه (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) وهي أسفل حضيض النفس المظلمة (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الاستعدادات (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ولو تجلى لهم صرفا لاحترقوا بأول سطوات عظمته ، ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كونه في لباس الشر ظاهرا بالصورة التي هم عليها وحمل المؤمنين على العارفين والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم (قَدْ أَصَبْتُمْ) قوى النفس (مِثْلَيْها) مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات (قُلْتُمْ أَنَّى) أصابنا (هذا) ونحن في بيداء السير في الله تعالى عزوجل (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لأنه بقي فيها بقية ما من صفاتها ولا ينافي قوله سبحانه : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق جل شأنه والسبب القابلي أنفسهم ، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه ، فباعتبار الفاعل يكون من عند الله ، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم ، وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبا لرضا الله تعالى أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة (أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بالحياة الحقيقة مقربين في حضرة القدس (يُرْزَقُونَ) من الأرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق ، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواب طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية ، وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية ، والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب ، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ، وثمارها الأحوال والمعارف.
والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال ، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي اعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق فإن كان ولا بدّ من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناء على أنها جواهر مجردة ، وأطلق اسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها.
ونظير ذلك في الجملة قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث : «الأطفال هم دعاميص الجنة» والدعاميص
__________________
(١) قوله : (وما كان لنبي أن يغل) وقوله : (أفمن اتبع) إلخ كذا في خطه رحمهالله ، ولا يخفى على من حفظ القرآن ما بينهما كتبه مصححه.