وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : «إن أول ثلاثة يدخلون الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره. وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفتها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول : هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٤].
(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والمراد منه أمته ، وكثيرا ما يخاطب سيد القوم بشيء ويراد أتباعه فيقوم خطابه مقام خطابهم ، ويحتمل أن يكون عاما للنبي صلىاللهعليهوسلم وغيره بطريق التغليب تطييبا لقلوب الخاطبين ، وقيل : إنه خطاب له عليه الصلاة والسلام على أن المراد تثبيته صلىاللهعليهوسلم على ما هو عليه كقوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨] وضعف بأنه عليه الصلاة والسلام لا يكون منه تزلزل حتى يؤمر بالثبات ـ وفيه نظر لا يخفى ـ والنهي في المعنى للمخاطب أي لا تغتر بما عليه الكفرة من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع ووفور الحظ ، وإنما جعل النهي ظاهرا للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب فإن تغرير التقلب للمخاطب سبب واغتراره به مسبب فمنع السبب بورود النهي عليه ليمتنع المسبب الذي هو اغترار المخاطب بذلك السبب على طريق برهاني وهو أبلغ من ورود النهي على المسبب من أول الأمر ، قالوا : وهذا على عكس قول القائل : لا أرينك هنا فإن فيه النهي عن المسبب وهو الرؤية ليمتنع السبب وهو حضور المخاطب.
وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان ، وقد صرحوا بأن القطع والانقطاع ونحو ذلك مثلا متضايفان ، وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سببا للآخر بل هما معا في درجة واحدة ، فالأولى أن يقال : علق النهي بكون التقلب غارا ليفيد نهي المخاطب عن الاغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر ، ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه ، ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه ، وفسر الموصول بالمشركين من أهل مكة ، فقد ذكر الواحدي أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية ، وبعض فسره باليهود ، وحكي أنهم كانوا يضربون في الأرض ويصيبون الأموال والمؤمنون في عناء فنزلت ، وإلى ذلك ذهب الفراء ، والقول الأول أظهر ، وأيّا ما كان فالجملة مسوقة لتسلية المؤمنين وتصبيرهم ببيان قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا إثر بيان حسن ما سينالونه من الثواب الجزيل والنعيم المقيم ، وقرأ يعقوب برواية رويس وزيد (لا يَغُرَّنَّكَ) بالنون الخفيفة (مَتاعٌ قَلِيلٌ) خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني تقلبهم متاع قليل ، وقلته إما باعتبار قصر مدته أو بالقياس إلى ما فاتهم مما أعد الله تعالى للمؤمنين من الثواب ، وفيما رواه مسلم مرفوعا «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فينظر بم ترجع» ، وقيل : إن وصف ذلك المتاع بالقلة بالقياس إلى مئونة السعي وتحمل المشاق فضلا عما يلحقه من الحساب والعقاب في دار الثواب ولا يخفى بعده (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي مصيرهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه بعد انتقالهم من الأماكن التي يتقلبون فيها.
(جَهَنَّمُ) التي لا يوصف عذابها (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم ، وفيه إشارة إلى مصيرهم إلى تلك الدار مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.