وجوز أن يكون (لِلْأَبْرارِ) خبرا والنية به التقديم أي والذي عند الله مستقر للأبرار و (خَيْرٌ) على هذا خبر ثان ، وقيل (لِلْأَبْرارِ) حال من الضمير في الظرف ، و (خَيْرٌ) خبر المبتدأ ، وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحال لغيره والفصل بين الحال وصاحب الحال غير المبتدأ وذلك لا يجوز في الاختيار (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) أخرج ابن جرير عن جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لما مات النجاشي : «اخرجوا فصلوا عن أخ لكم فخرج فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وأنس وقتادة ، وعن عطاء أنها نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحارث بن كعب اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى عليهالسلام فآمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي عن ابن جريج وابن زيد وابن إسحاق أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا ، منهم عبد الله بن سلام ومن معه ، وعن مجاهد أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم ، وأشهر الروايات أنها نزلت في النجاشي ـ وهو بفتح النون على المشهور ـ كما قال الزركشي.
ونقل ابن السيد كسرها ـ وعليه ابن دحية ـ وفتح الجيم مخففة ـ وتشديدها غلط ـ وآخره ياء ساكنة وهو الأكثر رواية لأنها ليست للنسبة ، ونقل ابن الأثير تشديدها ، ومنهم من جعله غلطا ـ وهو لقب كل من ملك الحبشة ـ واسمه أصحمة ـ بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وحاء مهملة ـ والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة ، ومعناه عندهم عطية الصنم ، وذكر مقاتل في نوادر التفسير أن اسمه مكحول بن صعصعة ، والأول هو المشهور ، وقد توفي في رجب سنة تسع ، والجملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت صفاتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك ، بل منهم من له مناقب جليلة ، وفيها أيضا تعريض بالمنافقين الذين هم أقبح أصناف الكفار وبهذا يحصل ربط بين الآية وما قبلها من الآيات ، وإذا لاحظت اشتراك هؤلاء مع أولئك المؤمنين فيما عند الله تعالى من الثواب قويت المناسبة وإذا لاحظ أن فيما تقدم مدح المهاجرين وفي هذا مدحا للمهاجرين إليهم من حيث إن الهجرة الأولى كانت إليهم كان المناسبة أقوى ، وإذا اعتبر تفسير الموصول في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ) باليهود زادت قوة بعد ولام الابتداء داخلة على اسم إن وجاز ذلك لتقدم الخبر (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن العظيم الشأن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من الإنجيل والتوراة أو منهما وتأخير إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما أن القرآن عيار ومهيمن عليه فإن إيمانهم بذلك إنما يعتبر بتبعية إيمانهم بالقرآن إذ لا عبرة بما في الكتابين من الأحكام المنسوخة وما لم ينسخ إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعد بذلك ، وقيل : قدم الإيمان بما أنزل على المؤمنين تعجيلا لإدخال المسرة عليهم ، والمراد من الإيمان بالثاني الإيمان به من غير تحريف ولا كتم كما هو شأن المحرفين والكاتمين واتباع كل من العامة (خاشِعِينَ لِلَّهِ) أي خاضعين له سبحانه ، وقال ابن زيد : خائفين متذللين ، وقال الحسن : الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله تعالى وهو حال من فاعل (يُؤْمِنُ) وجمع حملا على المعنى بعد ما حمل على اللفظ أولا ، وقيل : حال من ضمير إليهم وهو أقرب لفظا فقط ، وجيء بالحال تعريضا بالمنافقين الذين يؤمنون خوفا من القتل ، و (لِلَّهِ) متعلق ـ بخاشعين. وقيل : هو متعلق بالفعل المنفي بعده وهو في نية التأخير كأنه قال سبحانه : (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) لأجل الله تعالى ، والأول أولى ، وفي هذا النفي تصريح بمخالفتهم للمحرفين ، والجملة في موضع الحال أيضا والمعنى لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب وكتمان الحق من الرشا والمآكل كما فعله غيره ممن وصفه سبحانه فيما تقدم ، ووصف الثمن بالقليل إما لأن كل ما يؤخذ