الإلهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر ـ وهو حال له بالنسبة إليه تعالى ـ وكونه مزيلا لرذائل البخل ـ وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه ـ وكونه نافعا مريحا ـ وهو حال له بالنسبة إلى المستحق ـ فإذا منّ صاحبه وآذى فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا نسبة (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل ، فالآية بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله تعالى (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية ، والنذر عقد القلب على شيء والتزامه على وجه مخصوص قيل : وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب :
هم (ينذرون دمي) وأن |
|
ذر إن لقيت بأن أشدا |
وفعله كضرب ونصر ، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب : نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم ، والفاء داخلة في الجواب إن كانت (ما) شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين ، وقال ابن عطية : إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان ـ بأو دونهما ، وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث ، واعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى ، نعم جوز إرجاع الضمير إلى (ما) لكن على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد.
(وَما لِلظَّالِمِينَ) أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى ، والمتحرين للخبيث في الإنفاق ، والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق ، والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله ، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ؛ ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى (مِنْ أَنْصارٍ) أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير ـ كحبيب ، وأحباب ـ أو ناصر ـ كشاهد وأشهاد ـ والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد.
والقول ـ بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت (مِنْ) زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله ، ونفي أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر ، وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه ،