واعترض بأنه لا ينبغي أن يقال : ثبت حرمة الموطوءة بالآية ، والمعقود عليها بلا وطء بالإجماع لأنه إذا كان الحكم الحرمة بمجرد العقد ـ ولفظ الدليل الصالح له ـ كان مرادا منه بلا شبهة ؛ فإن الإجماع تابع للنص إذ القياس عن أحدهما يكون ، ولو كان عن علم ضروري يخلق لهم ثبت بذلك أن ذلك الحكم مراد من كلام الشارع إذا احتمله ، وحمله آخرون على الوطء والعقد معا فقد قال الزيلعي : الآية تتناول منكوحة الأب وطءا وعقدا صحيحا ، ولا يضر الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الكلام نفي ، وفي النفي يجوز الجمع بينهما كما يجوز فيه أن يعم المشترك جميع معانيه ، وقد نقل أيضا سعدي أفندي عن وصايا الهداية جواز الجمع بين معاني المشترك في النفي وحينئذ لا إشكال في كون الآية دليلا على حرمة الموطوءة والمعقود عليها كما لا يخفى.
واعترض ما قاله الزيلعي بأنه ضعيف في الأصول ، والصحيح أنه لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لا في النفي ولا في الإثبات ، ولا عموم للمشترك مطلقا ، وفي الأكمل ، والحق أن النفي كما اقتضاه الإثبات فإن اقتضى الإثبات الجمع بين المعنيين فالنفي كذلك وإلا فلا ، ومسألة اليمين المذكورة في المبسوط حلف لا يكلم مواليه ـ وله أعلون وأسفلون فأيهم كلم حنث ـ ليست باعتبار عموم المشترك في النفي كما توهم البعض ، وإنما هو لأن حقيقة الكلام متروكة بدلالة اليمين إلى مجاز يعمها ، وفي البحر : أن الأولى أن النكاح في الآية للعقد كما هو المجمع عليه ، ويستدل لثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام بدليل آخر فليفهم ، و (ما) موصول اسمي واقعة على من يعقل ولا كلام في ذلك على رأي من جوزه مطلقا ، وكذا على رأي من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه ، وقيل : مصدرية على إرادة المفعول من المصدر أي منكوحات آبائكم وليس بالوجيه (مِنَ النِّساءِ) في موضع الحال من (ما) أو من العائد عليها ، وعند الطبري متعلقة بنكح ، وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين ، وظاهره أنها بيانية ، ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي ، ونكتته مع عدم الاحتياج إليه إذا المنكوحات لا يكن إلا نساء التعميم كأنه قيل : أي امرأة كانت ، واحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهي للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي مات كما روي ذلك عن أبي بن كعب وهو استثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم ، والكلام حينئذ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم |
|
«بهن فلول من قراع الكتائب» |
والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من مات منهن. والمقصود سدّ باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] والمعلق على المحال محال ، وقيل : إنه استثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهي عنه من العقاب كأنه قيل : تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه ، وبهذا التأويل يندفع الاستشكال بأن النهي للمستقبل ، و (ما قَدْ سَلَفَ) ماض فكيف يستثنى منه ، وجعل بعض محققي النحاة الاستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعا فحكم على ما هنا بالانقطاع أي لكن ما سلف لا مؤاخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره ، ولا يعد ذلك زنا ، وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه الله تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية ، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا ، ولا لأولاد أهل الذمة مثلا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه ، وزعم بعضهم على تقدير الانقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه ، وحكي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر بمفارقتهن ،