عليه والتعبير ـ بأنزل ـ فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين ، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ، ونزول من ذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة على المشهور ، ولهذا يقال فيه : نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل : إن ـ نزل ـ يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] حيث قرن ـ نزل ـ بكونه جملة ، وقوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) [النساء : ١٤٠] وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما في تسلسل ، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة ـ نزل ـ تدل عليه ، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم ، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه ، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام.
واختلف في اشتقاق التوراة والإنجيل فقيل : اشتقاق الأول من ورى الزناد إذ قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال وقيل : من ورى في كلام إذا عرض لأن فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة ، ووزنها عند الخليل. وسيبويه فوعلة كصومعة ، وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاء وتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت ـ توراة ـ وكتبت بالياء تنبيها على الأصل ولذلك أميلت ، وقال الفراء : وزنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا كما قالوا في توصية توصاة ، واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهي لا تزاد كذلك إلا في مواضع ليس هذا منها ، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفا ، وقيل : اشتقاق الثاني من ـ النجل ـ بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض ، ومنه النجيل لما ينبت فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد ـ كما قاله الزجاج ـ وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة ، وقيل : من النجل وهو التوسعة ، ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها ، وقيل : مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي به لكثرة التنازع فيه ـ كذا قيل ـ ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر ، وأما على تقدير ـ أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر سرياني وهو الظاهر ـ فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته ، ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك كما أشرنا إليه فيما قبل. والاستدلال ـ على عربيتهما بدخول اللام لأن دخولها في الإعلام العجمية محل نظر ـ محل نظر لأنهم ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف ـ كما في الإسكندرية ـ فإن أبا زكريا التبريزي قال : إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته. ومما يؤيد أعجمية الإنجيل ما روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة ، وأفعيل ليس من أبنية العرب (مِنْ قَبْلُ) متعلق ـ بأنزل ـ أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ، وقيل : من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم ، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلىاللهعليهوسلم : حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه : (هُدىً لِلنَّاسِ) أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلىاللهعليهوسلم واتباعه حين يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير ، والقول بأنه يهتدي بهما أيضا فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن ـ ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف ، ويجوز أن ينتصب هدى على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس