وعلى الثاني خاص ، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولا بذكر ـ المقرّ ـ وهو الجنات ، ثمّ ثنّى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة ، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا اللهعزوجل.
«وفي الحديث» أنه سبحانه «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا».
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل : من أولئك المتقون؟ فقيل : هم الذين إلخ ، وأن يكون في موضع نصب على المدح ، وأن يكون في حيز الجر على أنه تابع ـ للذين اتقوا ـ نعتا أو بدلا ، أو العباد كذلك ، واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد ، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم ، واعترض أيضا كونه تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا ـ بخير ـ لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع ، وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لا بد له من دليل نبيل ، وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغي من جاهل فضلا عن عالم فاضل ، والتزام حذف الناصب أو المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال : إنه لدفع توهم الأخبار ، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية ، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط ، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى :
(فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ) على مجرد الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات ، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر (الصَّابِرِينَ) يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة ـ للذين ـ إن جعلته في موضع جر أو نصب وإذا جعلته في محل رفع كان هذا منصوبا على المدح.
والمراد بالصبر ـ الصبر على طاعة الله تعالى ، والصبر عن محارمه ـ قاله قتادة ، وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على البأساء والضراء وحين البأس (وَالصَّادِقِينَ) في نياتهم وأقوالهم سرا ـ وعلانية وهو المروي عن قتادة أيضا (وَالْقانِتِينَ) أي المطيعين ـ قاله ابن جبير ـ أو المداومين على الطاعة والعبادة ـ قاله الزجاج ـ أو القائمين بالواجبات ـ قاله القاضي ـ (وَالْمُنْفِقِينَ) من أموالهم في حق الله تعالى ـ قاله ابن جبير ـ أيضا (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) قال مجاهد والكلبي. وغيرهما : أي المصلين بالأسحار.
وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال : هم الذين يشهدون صلاة الصبح ، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع أسحرنا؟ فيقول : لا فيعاود الصلاة فإذا قال : نعم قد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح ، وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : «أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة» وروى الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله «أن من استغفر الله تعالى في وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية» والباء في ـ بالأسحار ـ بمعنى في ، وهي جمع ـ سحر ـ بفتح الحاء المهملة وسكونها سميت أواخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء ـ كالسحر ـ للشيء الخفي. وقال بعضهم : السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر.
وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذا العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع