لم يكفوا ، وإذا عطف (وَيَكُفُّوا) على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف ، وكلام الله تعالى منزه عنه ، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه : (وَيَكُفُّوا) جملة حالية ، أو استئنافية بيانية ، أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضي ثبوت النون في (يَكُفُّوا) على ما هو المعهود في مثله ، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول مرتبا على شيئين ، وفي الثانية على ثلاثة ، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين ، وكلام العلامة البيضاوي ـ بيض الله تعالى غرة أحواله ـ في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد ، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جدا (وَأُولئِكُمْ) الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة.
(جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخبائثهم ، أو تسلطا لا خفاء فيه حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين ، وقيل : لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه (أَنْ يَقْتُلَ) بغير حق (مُؤْمِناً) فإن الإيمان زاجر عن ذلك (إِلَّا خَطَأً) فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية. وقلما يخلو المقاتل عنه ، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، أو على أنه مفعول به أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطإ ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين ، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعا حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ.
وقال بعضهم : الاستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر ، وقيل : إلا بمعنى ولا ، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ ، وقيل : الاستثناء من مؤمن أي إلا خاطئا ، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب ، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل ، أو الشخص ، أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا ، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه ، وقرئ ـ خطاء ـ بالمد ـ وخطا ـ بوزن عمى بتخفيف الهمزة ، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ـ وكان أخا أبي جهل والحارث بن هشام لأمهما ـ أسلم وهاجر إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه ، فأقبل أبو جهل والحارث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشا بما لقيت أمه ، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة ، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوسا حتى فتح رسول اللهصلىاللهعليهوسلم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم ، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد ذلك فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره الخبر فنزلت ، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد «أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله فبدر فضربه ، ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟! فقال : كيف بي يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام : فكيف بلا إله إلا الله؟! وتكرر ذلك ـ قال أبو الدرداء ـ فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن» (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليه ـ أي فواجبه تحرير رقبة ـ والتحرير الإعتاق ؛ وأصل معناه جعله حرا أي كريما لأنه يقال لكل مكرم حر ، ومنه حر الوجه ـ