عزوجل بذكر ضده ، فكأنه قيل : إنه يحب الشكر وإعلانه ويكره السوء وإعلانه ، وفيه احتباك بديع (إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (خَيْراً) أي خير كان من الأقوال والأفعال ، وقيل المراد (إِنْ تُبْدُوا) جميلا حسنا من القول فيمن أحسن إليكم شكرا له على إنعامه عليكم ، وقيل : المراد بالخير المال والمعنى إن تظهروا التصدق (أَوْ تُخْفُوهُ) أي تفعلوه سرا ، وقيل : تعزموا على فعله (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع ما سوّغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها ، والتنصيص على هذا مع اندراجه في ابتداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به ، والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان ، وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) فإن إيراد العفو في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون الله تعالى عفوّا قديرا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة ، وقال الحسن : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى ، وقال الكلبي : هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم ، وقيل : (عَفُوًّا) عمن عفا (قَدِيراً) على إيصال الثواب إليه ، نقله النيسابوري وغيره (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى :
(وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) في الإيمان بأن يؤمنوا به عزوجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام ، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة ، بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب ، وما ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله ، لأنه عزوجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلىاللهعليهوسلم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يشعر (وَيُرِيدُونَ) بهذا القول (أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي الإيمان والكفر (سَبِيلاً) أي طريقا يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا ، إذ الحق لا يختلف ، (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢]! هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار ، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى عليهالسلام ، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليهالسلام وكفروا بالقرآن ومحمدصلىاللهعليهوسلم ، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عزوجل وتركوا الإسلام وهو دين الله تعالى الذي بعث به ورسله ، وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج مثله ، وقال بعضهم : الذين يكفرون بالله تعالى رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات ، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه ، وإن قيل : إنه يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى عليهالسلام وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا : إنه ثالث ثلاثة ، والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه ، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهمالسلام وكفروا ببعضهم كاليهود ، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها ـ بأو ـ لكن أتي بالواو بدلها فهي بمعناها ، وقيل : إن الموصول مقدر بناء على جواز حذفه مع بقاء صلته ، وقيل : إن قوله تعالى (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا) إلخ عطف تفسيري على قوله سبحانه : (يَكْفُرُونَ) لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة ، وأما قوله جل وعلا : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) إلخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية ، فالأولون فرقوا بين الإيمان بالله