تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد ، فإن صح هذا كانت وكادة الميثاق في غاية الظهور ، وزعم بعضهم أن هذا الميثاق هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلىاللهعليهوسلم والإيمان به ، وهو المذكور في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) [آل عمران : ٨١] الآية ، وكونه (غَلِيظاً) باعتبار أخذه من كل نبي نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضا ، والباء للسببية وما مزيد لتوكيدها ، والإشارة إلى أنها سببية قوية ، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا ، وجوز أن تكون ـ ما ـ نكرة تامة ، ويكون (نَقْضِهِمْ) بدلا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم ، وإن شئت أخرت العامل.
واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوروده مصرحا به كذلك في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) [المائدة : ١٣] ، وجوز غير واحد تعلق الجار ـ بحرمنا ـ الآتي على أن قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ) بدل من قوله سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ، وإليه ذهب الزجاج ، وتعقبه في البحر بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد ، وبيان ذلك أن قولهم ـ على مريم بهتانا عظيما ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، واستحسنه السفاقسي ، ثم قال : وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه ، وفيه بحث ، وجعل العلامة الثاني الفاء في (فَبِظُلْمٍ) على هذا التقدير تكرارا للفاء في (فَبِما نَقْضِهِمْ) عطفا على أخذنا منهم ، أو جزاء شرط مقدر ، واستبعده أيضا من وجهين : لفظي ومعنوي ، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف ، أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط ، والثاني بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه ، ثم قال : ولو جعلت الفاء للعطف على (فَبِما نَقْضِهِمْ) كما في قولك : بزيد وبحسنه ، أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا ، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف ، أما الأول فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وأما الثاني فلأنه استطراد يتم الكلام دونه ؛ وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه.
والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك ، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين متوافقان في العروض ، أحدهما بالكفر ، والآخر بالنقض ، وقيل : هو متعلق بلا يؤمنون ، والفاء زائدة ، وقيل : بما دل عليه ولا يخفى ردّ ذلك (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) أي حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن ، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به.
(وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريا ويحيى عليهماالسلام (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع غلاف بمعنى الظرف ، وأصله غلف بضمتين فخفف ، أي أوعية للعلم فنحن مستغنون بما فيها عن غيره ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء ، وقال الكلبي : يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا ، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمدصلىاللهعليهوسلم فيكون كقوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥].
(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلام معترض بين المعطوفين جيء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد