ذرياتهم ، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريما عليهم لما بينهما من العلاقة التامة ، وقوله تعالى : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) استئناف لبيان كيفية حرمانهم ، وقيل : حال من ضمير (عَلَيْهِمْ) ، والتيه : الحيرة ، ويقال : تاه يتيه ويتوه ، وهو أتوه وأتيه ، فهو مما تداخل فيه الواو والياء ، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق.
وقيل : الظرف متعلق ب (يَتِيهُونَ) ، وروي ذلك عن قتادة فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه ، وكانت مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخا في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل ، وقيل : اثني عشر فرسخا في عرض ستة فراسخ ، وقيل : ستة في عرض تسعة ، وقيل : كان طولها ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام ، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون ـ كما قاله الحسن ومجاهد ـ قيل : وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) عوقبوا بما يشبه القعود ، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل.
وقيل : لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء ، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة ، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها ، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض.
وقال أبو علي الجبائي : إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله.
وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المنّ والسلوى ، وجعل معهم حجر موسى عليهالسلام يتفجر منه الماء دفعا لعطشهم ، قيل : ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس ، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روي عن طاوس.
وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه.
والعادة تبعد كثيرا منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه ، فقال : إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم ، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر ، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له : هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال : لا أرضى بالكذب ثوبا ، واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة ، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى ، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه ، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم ، وأكثر المفسرين على أن موسى وهارون عليهماالسلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم ، وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم عليهالسلام ، ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك.
وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهماالسلام فقالوا : قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه ، فبرأه مما يقولون ، وعاد إلى مضجعه ، ومات موسى عليهالسلام بعده بسنة ، وقيل : بستة أشهر ونصف ، وقيل : بثمانية أعوام ، ودخل يوشع أريحا بعده بثلاثة أشهر ، وقال قتادة : بشهرين ، وكان قد نبئ قبل بمن بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم ، قيل ـ ولا يساعده النظم الكريم ـ فإنه بعد ما قبل دعوته عليهالسلام على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا ، ويقدر وفاة النبيين عليهماالسلام في محل العقوبة ظاهرا ، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة ، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهماالسلام بالتيه كثيرة لا سيما الأخبار بموت هارون عليه