الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها ، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل ، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب ، ثم قال : وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخبارا وقصصا ، فكأنه قال : ومن القصص ـ مثل الجنة ـ فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم ، وكذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) لما قال جل ثناؤه : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] قال جل وعلا في جملة الفرائض : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم جاء (فَاجْلِدُوا) بعد أن مضى فيهما الرفع ـ يريد سيبويه ـ لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد ، بل بني على محذوف متقدم ، وجاء الفعل طارئا ، ثم قال : كما جاء ـ وقائلة : خولان ـ فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر ، وكذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) فيما فرض عليكم (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث ، وقد قرأ أناس (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ، يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم ، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع ، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم ، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع ، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم ، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب ، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه ، والباب مع القرائن مختلف ، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب ، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل ، والرفع متعين ـ لا أقول أرجح ـ حيث يبنى الاسم على كلام متقدم ، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده ، ألا ترى إلى قوله : لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضرب ، كيف رجح النصب على الرفع ، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل ، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم ، ثم حقق هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار ، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير ، بل كان يرفعه على الابتداء ، ويجعل الأمر خبره ـ كما أعربه الزمخشري ـ فالملخص ـ على هذا ـ أن النصب على وجه واحد ، وهو بناء الاسم على فعل الأمر ، والرفع على وجهين : أحدهما ضعيف وهو الابتداء ، وبناء الكلام على الفعل ، والآخر قوي بالغ كوجه النصب ، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق ، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع ، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمهالله تعالى ورضي عنه انتهى.
والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة ، وقيل : زائدة وكذا على الوجه الضعيف ، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت ، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين : زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش ، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط ، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما ، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه ، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، والفاء أيضا ـ كما قال ابن جني ـ لما في الكلام من معنى الشرط ، ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه ، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة ، والمراد كما يشير إليه بعض شروح الكشاف إن أردتم حكم (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) إلخ ، ولذا لم يجز زيدا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا ، وتقديره إن أردتم معرفة إلخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأن لا يدل على الوجوب المراد ، وقال أبو حيان : إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما (فَاقْطَعُوا) ، وقيل : إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وليس بشيء ، وبما ذكر صاحب الانتصاف يعلم فساد ما قيل : إن سبب الخلاف السابق في