يكون (هُمُ) ضمير فصل ، و (الْكافِرُونَ) هو الخبر ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير ، واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن ، ووجه الاستدلال بها أن كلمة (مِنْ) فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى ، فيدخل الفاسد المصدق أيضا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى ، وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر ، فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى ، وأيضا إن المراد عموم النفي بحمل ما على الجنس ، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره ، وأيضا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنما أنزل الله تعالى ـ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ـ في اليهود خاصة ، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ) إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك ، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة ، فلإنكارهم ذلك وصفوا ـ بالكافرين ـ ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا ـ بالظالمين ـ ولخروجهم عن الحق وصفوا ـ بالفاسقين ـ أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم ، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر ، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق ، وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبي أنه قال : الثلاث الآيات التي في المائدة أولها لهذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى ، ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل : إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ، والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه.
ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر ، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم ، وهو مخرج مخرج التغليظ ، أو يلتزم أحد الجوابين ، واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات ، والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين ، وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين ، وما أخرجه الحاكم وصححه وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه ـ أن الآيات الثلاث ذكرت عنده ، فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل ، فقال حذيفة : نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك ـ يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم ، ويحتمل أن يكون كما قيل : ميلا إلى القول بأن ذلك في المسلمين ، وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه قال : كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك.
هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحو الصفات والفناء في الذات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بالمطلوب ، وقيل : ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله :
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي |
|
فليس إلى معن سواه شفيع |
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي ما في الجهة السفلية (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) الكبرى (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية