طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء ، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر ، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز ، فلا معاب عليه في ذلك ، وقيل : إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا ، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت».
وقيل : إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا ، وقيل ـ وليته ما قيل ـ المراد بما أنزل القرآن ، وبما في الجواب بقية المعجزات ، وقيل : غير ذلك ، واستدل بالآية على أنه صلىاللهعليهوسلم لم يكتم شيئا من الوحي ، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية.
وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام ، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه ، وأمّا ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه ، وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] قال : أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه ، ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته ، وقال الواسطي ـ ألقى إلى عبده ما ألقى ـ ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلىاللهعليهوسلم ، وما كان مخصوصا به عليه الصلاة والسلام كان مستورا ، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرا ، قال الطيبي : وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : حفظت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعاءين : فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم ـ أراد عنقه ـ وأصل معناه مجرى الطعام ، وبذلك فسره البخاري ، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة ، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال :
إني لأكتم من علمي جواهره |
|
كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا |
وقد تقدم في هذا أبو حسن |
|
إلى الحسين ، وأوصى قبله الحسنا |
فرب جوهر علم لو أبوح به |
|
لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثنا |
ولاستحل رجال مسلمون دمي |
|
يرون أقبح ما يأتونه حسنا |
ومن ذلك علم وحدة الوجود ، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور العقل ، وقالوا : إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل ، ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار ، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار.
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما نصه : وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة ، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده ، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام ، حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق على فهمي ، فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن ، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى ، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق ، فاعلم ذلك انتهى.