وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلي قدسسره أنه قال : ـ معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا ـ فإن معنى قوله : ـ أوتيتم اللقب ـ أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي ، وإن كانت النبوة العامة أبدية ، وقوله : وأوتينا ما لم تؤتوا على حد قول الخضر لموسى عليهالسلام ـ وهو أفضل منه ـ يا موسى أنا على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه أنت ، وهذا وجه آخر غير ما أسلفنا من قبل في توجيه هذا الكلام.
والصنف الثاني الصديقون وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد ، أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول ويكون الإيمان بالله تعالى على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة ، أو نظرا لكن ما ثبت كونه قربة وليس بين النبوة والصديقية ـ كما قال حجة الإسلام وغيره ـ مقام ، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وهي باب مغلق ، وأثبت الشيخ الأكبرقدسسره مقاما بينهما سماه مقام القربة ، وهو السر الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه المشار إليه في الحديث «فليس بين النبي صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه رجل أصلا» لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان ، وفسرها بعضهم بأنها نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول.
والصنف الثالث الشهداء تولاهم الله تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين ، وهم أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨] فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهيّ وعناية أزلية فإن بعث الله تعالى رسولا وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه : إن ذلك قربة إليه من حيث ـ قال الله سبحانه ، أو قاله الرسول الذي جاء من عنده ـ فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة ، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد لله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولا ، والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية فإن الصديق أتم نورا منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين : وجه التوحيد ووجه القربة ، والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان وهو فوقه في مرتبة العلم فهو المتقدم في مرتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان ، والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا ، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه فعند ما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر ، والصنف الرابع الصالحون تولاهم الله تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحا وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح ، ولا في شهادته فهو صالح ، ولا في توبته فهو صالح ، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه ، ويجوز رفعه ، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما ، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا ، ومن هنا قيل : إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد.