الضعيفة ، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتدوا إلى صوب الصواب (إِلَّا قَلِيلاً) وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ ، الواقفون على الأسرار الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة ، فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أي (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) تعالى بالنبي صلىاللهعليهوسلم (وَرَحْمَتُهُ) بإنزال القرآن ـ كما فسرهما بذلك السدي والضحاك ـ وهو اختيار الجبائي ، ولا يبعد العكس (لَاتَّبَعْتُمُ) كلكم (الشَّيْطانَ) وبقيتم على الكفر والضلالة (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به إلى طريق الحق ، وسلم من مهاوي الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الكتاب ـ كقس بن ساعدة الايادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل (١) وأضرابهم ـ فالاستثناء متصل ، وإلى ذلك ذهب الأنباري.
وقال أبو مسلم : المراد بفضل الله تعالى ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى ، والمعنى لو لا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) فيما يلقى إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين (إِلَّا قَلِيلاً) وهم أهل البصائر النافذة ، والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا ، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام ، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل ، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان ، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه ، وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا ، وذلك لأن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بوجود فضل الله تعالى عليهم ، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فإذا جعل الاستثناء ما ذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة ، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله تعالى ، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه : لو لا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب ، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله ، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر ، نعم ظاهر عبارة الكشاف في هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة ، وزاد التوفيق في البيان ، ويمكن أن يقال أيضا : أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله ، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على البعض لما فيه من التكلف ، وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى أن الاستثناء من قوله تعالى : (أَذاعُوا بِهِ) ، وروي ذلك عن ابن عباس ـ وهو اختيار المبرد ، والكسائي والفراء والبلخي والطبري ـ واتخذ القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة.
وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه : (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) واعترضه الفراء والمبرد بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله ، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، وتعقب ذلك الزجاج بأنه غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في
__________________
(١) عد الطبرسي منهم. البراء وأبا ذر. ا ه منه.