سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب ، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي.
وقال علي بن عيسى : إنه سبحانه لما قال (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) مشيرا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك ، وليس بشيء كما لا يخفى ، و ـ الشفاعة ـ هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية ، أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا ، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه ، و ـ الحسنة ـ منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى ، روى مسلم وغيره عن النبيصلىاللهعليهوسلم «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له» وقال الملك : ولك مثل ذلك ، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلىاللهعليهوسلم بل لا أكاد أسوغه ، وإن كانت فيه منفعة له صلىاللهعليهوسلم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.
وتفسيرها بالدعاء ـ كما نقل عن الجبائي ـ أو بالصلح بين اثنين ـ كما روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ لعله من باب التمثيل لا التخصيص ، وكون التحريض الذي فعله صلىاللهعليهوسلم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو ، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة ؛ وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا ، ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية ، والحسنة منها ما كان في طاعة ، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد ، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه.
(وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) وهي ما كانت بخلاف الحسنة ، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ، ففي الخبر «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع» واستثني من الحدود القصاص ، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي نصيب من وزرها ، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة ، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة ، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن ، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة ، والكفل هو المثل المساوي ، فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف ؛ والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها ، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده ، وقال بعضهم : إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي مقتدرا ـ كما قاله ابن عباس ـ حين سأله عنه نافع بن الأزرق ، واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري :
وذي ضغن كففت النفس عنه |
|
وكنت على مساءته مقيتا |
وروي ذلك عن جماعة من التابعين ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الحفيظ واشتقاقه من القوت ، فإنه يقوي البدن ويحفظه ، وعن الجبائي أنه المجازي أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات ، وأصله مقوت فأعلّ كمقيم ؛ والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير.