خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم. أو يقال : إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أيضا (جَنَّتانِ) صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين ، وعليه قيل : (جَنَّتانِ) عطف على (جَنَّتانِ) قبله (وَمِنْ دُونِهِما) في موضع الحال ، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عزوجل فله يوم القيامة أربع جنان.
قال الطبرسي : والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر ، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالا ظاهرا لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا ـ إذ حكم مثله حكم المرفوع ـ لم يكن لنا العدول عما يقتضيه ، وقد روي عنه أيضا حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس.
وأخرج عنه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم أنه قال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان ، ومعنى قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ) إلخ عليه مما لا يخفى ، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدرا وأحسن منظرا من الحور المقصورات في الخيام بناء على أنهن النساء المخلوقات في الجنة.
فقد جاء من حديث أم سلمة «قلت يا رسول الله : أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة ، قلت : يا رسول الله وبم ذاك؟ قال : بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا» إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عزوجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارا ظاهرا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين ، وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه ، وإذا قلنا : إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع ، وقال الإمام في ذلك : إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب ، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عزوجل قال في أهل الجنة : (مُتَّكِؤُنَ) قيل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون ، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا ، ثم ذكر في ذلك وجها ثانيا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله عزوجل : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأيام ، ـ فتبارك ـ بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي ، وقد ورد في