(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت ، أو تسقم سقما شديدا ، ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال : جمل أهيم قال الشاعر :
فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد |
|
صداها ولا يقضي عليها هيامها |
وجعل بعضهم (الْهِيمِ) هنا جمع الهيماء ، وقيل : هو جمع هائم أو هائمة ، وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ ، وعن ابن عباس أيضا وسفيان (الْهِيمِ) الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها ومفرده هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم بالياء ويخفف اللفظ فكسرت الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه ، وقال ثعلب : هو بالضم كقراد وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل : لأن الإفراط بعد الأصلي ، وقيل : لأن كلّا من المتعاطفين أخص من الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء الهيام قد يشرب غير الحميم ، والشرب الذي لا يحصل الري ناشئ عن شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل ، والذي اختاره ما قاله مفتي الديار الرومية : إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم ، والشرب بالضم مصدر ، وقيل : اسم لما يشرب ، وقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ـ كما روى جماعة منهم الحاكم وصححه ـ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «شرب» بفتح الشين وهو مصدر شرب المقيس ، وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج ، وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي (هذا) الذي ذكر من ألوان العذاب (نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار ، وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى ، ونظير ذلك قوله :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا |
|
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا |
وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو نزلهم بتسكين الزاي المضمومة للتخفيف كما في البيت ، والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول ، وقوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق بقرينة (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) ولما لم يحقق تصديقهم المشعر به قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨] عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبئ عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم والإنكار فحضوا على التصديق بذلك ، وقيل : المراد فهلا تصدقون بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الإسراء : ٤٩ ، ٩٨ ، المؤمنون : ٨٢ ، الصافات : ١٦ ، الواقعة : ٤٧] فيكون الكلام إشارة إلى الاستدلال بالإبداء على الاعادة فإن من قدر عليه قدر عليها حتما ، والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن شاء الله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف ، وقرأ ابن عباس وأبو الثمال «تمنون» بفتح التاء من مني النطفة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا تام الخلقة ، فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرا أو