وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ويرتضيه الذوق السليم (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها ، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولعله عليهالسلام لم يقل (يا) قومي كما قال موسى عليهالسلام بل قال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم ، أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليهالسلام هضما لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم ، وفيه من الاستعطاف ما فيه ، وقيل : إن الاستعطاف بما ذكر لما فيه من التعظيم ، وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليهالسلام.
(إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقا ، فنصب (مُصَدِّقاً) على الحال من الضمير المستتر في (رَسُولُ) وهو العامل فيه ، و (إِلَيْكُمْ) متعلق به ، وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال ، وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليهالسلام ، وقوله تعالى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) معطوف على (مُصَدِّقاً) ، وهو داع أيضا إلى تصديقه عليهالسلام من حيث إن البشارة بهذا الرسول صلىاللهعليهوسلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس منها : أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه ، وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر : يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه ، ويقول لهم ما آمره فيه ، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى غير ذلك ، ويتضمن كلامه عليهالسلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهمالسلام جميعا من تقدم ومن تأخر ، وجملة (يَأْتِي) إلخ في موضع الصفة ـ لرسول ـ وكذا جملة قوله تعالى : (اسْمُهُ أَحْمَدُ) وهذا الاسم الجليل علم لنبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وعليه قول حسان :
صلى الإله ومن يحف بعرشه |
|
والطيبون على المبارك أحمد |
وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي الترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي. وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من أفعل التفضيل من الحامدية ، وجوز أن يكون من المحمودية بناء على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد ، وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي ، وقرئ «من بعدي» بفتح الياء ، هذا وبشارته عليهالسلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز ، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان ، وقولهم : ولو وقعت لذكرت في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة ، وإذا سلمت قلنا : بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليهالسلام أهملوها اكتفاء بما في التوراة ومزامير داود عليهالسلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهمالسلام.
ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد ـ حبا لدينهم أو لأمر ما غير ذلك ـ أسقطوها كذا قيل ، وأنا أقول : الأناجيل التي عند النصارى أربعة : إنجيل متى من الاثني عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليهالسلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا ، وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا ، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا جمعه بالإسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا ، وإنجيل