يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءات كثيرة ، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الاضراب في الردّ فقيل : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) [الطور : ٣٣] وعقب بقوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا) [الطور : ٣٤] ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر ، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما ، ثم الشعر ، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا ، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة ، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فهو ينسبه الى الافتراء حيث لم يرسله ، ثم أضرب صريحا عنه بقوله تعالى : (بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور : ٣٦] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بمازن ، فكأنه قيل : مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد ، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم ، فالأول لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث إن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته ، والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا البتة ، وأدمج فيه إنكارهم للمعاد ، ونسبتهم إياه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء ، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) [الطور : ٤١] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) [الطور : ٣٧] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبيّن فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل : لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم ، وقيل : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ) [الطور : ٣٨] وذيل بقوله تعالى : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) [الطور : ٣٩] إشعارا بأنه من جعل خالقه أدون حالا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ وقيل : ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما ، ثم قيل : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) [الطور : ٤٠] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرا مالا ، أو جاها ، أو ذكرا ، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث ، ثم قيل (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) على معنى بل أعندهم اللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب ، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز الى الأخير : ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاء لحق الإعجاز ، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العلم أشمل موردا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث إنهم لم يرسلوه ، وهذا من تلك الحيثية ، ومن حيث إنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدا أوليا ، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلا لا يقفون على هذا المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلا وحجة وسيفا ، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إله غيره ، ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا