فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنه رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة ، أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال : انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبريل عليهالسلام فقال : يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليهالسلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات ، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشار إليه البوصيري في قوله:
شق عن صدره وشق له البد |
|
ر ومن شرط كل شرط جزاء |
من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه : ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا ، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر ، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : سحر القمر فنزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) إلى (مُسْتَمِرٌّ) فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف ، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب.
ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا ، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه. وما في خبر أبي نعيم ـ الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب ـ لا يعوّل عليه ، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) هم ، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع ، وقد شاع «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق» ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم.
وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناء على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه ، وقال بعض الملاحدة : لو وقع لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد ، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الإرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة ، وأيضا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه ، وأيضا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة