البشر؟ وأين علم الله من علم البشر؟ فالأساس الذي اعتمدوه في أحاديثهم عن القرآن ، وما استخرجوه واستنبطوه منه يعود إلى هذا اليقين والإيمان بصدقه قبل البرهنة عليه ، وذلك لأنه من الله ومن علم الله ومن كلام الله ، فخالق الكون والخلق أدرى بما خلق (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك / ١٤] ولعل خير ما يستشهدون به على جميع ما يذكروه من علوم القرآن أنه هو نفسه قال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان / ٢٧]. فمن يؤمن بالقرآن يؤمن بهذه الآية ، ومن يؤمن بهذه الآية فليبالغ ما شاء ، فلن يصل إلى حدود علم الله ، لأن علم الله مطلق وجميع المبالغات المفهومة وغير المفهومة هي نسبية لعقل الإنسان المحدود ، ولا شك أن المعترضين والمحتجين على تفسير القرآن علميا هم ناس مؤمنون أيضا ولا يختلفون عن أن علم الله هو فوق البشر ، وأن كلام الله المعبر عن علمه في القرآن هو أبعد من أن يحيط به عقل ، إلا أن الاختلاف بينهم وبين المؤيدين للتفسير العلمي يكمن حول المناسبة والالتقاء الحقيقي بين كل آية وكل علم ، فهل هذه الآية قصد منها كذا ، وتدل على كذا حقيقة علمية ، أم أنها لا تدل على ذلك! وهل القرآن فيه ما يشير إلى أبواب ومبادئ العلوم في كذا آية ، أم أن هذه الآية تفسيرها أسباب النزول والمعاني المحددة والمشخصة فيها ، كما فسّرها الرسول صلىاللهعليهوسلم أو بعض الصحابة والتابعين؟ هنا مكمن الخلاف ، وهذه مسألة قادت إلى سؤال كبير طرحه العقاد على نفسه فيقول (١) «هل معنى ذلك أن الكتب المقدسة لا تفهم إلا كما فهمها المخاطبون بها لأول مرة؟ أو معناه أنها تفهم في كل عصر حسب النظريات العلمية التي انتهى إليها أبناؤه؟ ورغم أن العقاد من المعارضين للتفسير العلمي للقرآن إلا أنه حينما يجابه هذا السؤال يقول بأنه لا محل للخلاف في أن الإنسان العصري مطالب بفهم كتبه المقدسة ، وفهم ما توجبه على ضميره من الفرائض والشعائر والواجبات ، والفهم المطلوب من المكلف المخاطب يقتضي أن المسلم مأمور في القرآن بالتفكير والتأمل والتدبّر والاستقلال بذلك عن الآباء والأجداد ، وأخبار الزمن القديم وأئمة الدين ، وليس الخطاب مقصورا على العرب الأميين ، ولا هو مقصور على أبناء القرن العشرين ، ولكنه عام مطلق لكل عصر وكل زمان ، إذ ليس من المعقول أن يفكر الإنسان على نسق واحد في جميع العصور. ومع هذا فالعقاد يؤكد أن التفكير
__________________
(١) الفكر الديني في مواجهة العصر ـ د. عفت محمّد شرقاوي ، ص ٤٢٧.