وهكذا حينما يستشهد بقول القرآن (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان / ٣٣] نراه يعلق على كلمة (تَفْسِيراً) «بأنها جاءت مرة واحدة دالة على أن كلام الله هو الذي يفسّر كل ما عداه تفسيرا ، هو الحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، فمهما يحاول الناس أن يصيبوا الحق في تفسيرهم أمرا من أمور الحياة ، فربما تيسّر لهم شيء من صواب الرأي أو القول ، ولكنهم لن يعلموا يقينا أنهم أصابوا أحسن الحديث وأحسن العمل ، كمن يسافر من بلد إلى آخر ، فلعلّه يختار مكانا من البلد وصل إليه وغيره أحسن منه وهو لا يدري من ذلك شيئا ، بل هو لا يدري وجه الإصابة فيما أصاب ، واليقين لا مصدر له إلا الله وحده لا شريك له» ، ويستشهد بحديث الرسول صلىاللهعليهوسلم (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) ، ويشرحه بقوله (١) : «إن الأصل في القرآن أنه هو اليقين ، فلا يكافئه في القول فيه إلا اليقين ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم هو المؤيد باليقين ، فكان كلامه عن القرآن وعمله به هي الصدور الكامل عن الوحي ، وكان ما عدا ذلك من القول بالرأي باطلا لأنه إن صادف وجه الحق ، والحق بكل شيء محيط ، فليس يغني ذلك من اليقين بالحق ووضوحه في وعي القائلين بالرأي ، حيث لا يغنيهم أن يصلوا إلى الحق اتفاقا لا يقينا ظاهرا في الاعتقاد الذي يبين العمل ويحققه تحقيقا كاملا في الضمير ، فضلا عن سائر الجوارح ، حيث هذا الظهور في الفهم هو طريق التواصي بالحق والتواصي بالصبر».
إن المؤلف يرى أن الآية السابقة تدل دلالة واضحة على أن القرآن هو الذي يفسّر وليس هو الذي يفسّر ، ويبني رأيه على أنه ليس من شأننا ، نحن البشر العاديين ، بعد ذلك أن نقول إن أحدا من الناس قد فسّر القرآن ، فإذا القرآن مفسّر وليس مفسّرا كما بيّن لنا القرآن ، وكما حقق لنا التفصيل المطلق لكلمات الله تعالى ، وقد استثني مقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم من هذا الحكم حيث هو المبلّغ ، وهو المؤدي للأمانة ، فهو المبيّن للبيان القرآني ، وبيان البيان هو التبليغ وليس التفسير. أما كلمة التأويل والتي يعتبرها المؤلف أدق تعبيرا عن القرآن من كلمة التفسير ، فهو أيضا شيء لا يقدر عليه أحد إلا الله ، ويكون التسليم بالنص القرآني ، حسب وروده ، هو البديل الوحيد للإنسان لكي يتلقى العلم الإلهي «فالتأويل هو عدم القدرة البشرية على التأويل ، ومعرفة الناس ذلك هو وضوح خضوعهم للحق سبحانه ، وهذا هو التسليم بحدود الإنسان وإقامة حدود الله في النفس والضمير والفكر ، والمعادل العملي لهذه الحقيقة هي تلمذة
__________________
(١) القرآن تفسير الكون والحياة ـ محمّد العفيفي ، ص ٢٧٥.