المسألة الثالثة ـ فأما قوله : ببكّة ، ففيها ثلاثة أقوال :
الأول : بكّة : مكّة. الثاني ـ بكّة : المسجد ، ومكة سائر الحرم.
وإنما سمّيت بكّة لأنها تبكّ (١) أعناق الجبابرة ، أى تقطعها. وقال أبو جعفر وقتادة : إنّ الله سبحانه بكّ بها الناس ؛ فتصلّى النساء بين يدي الرجال ، ولا يكون في بلد غيرها ، وصورة هذا أنّ الناس يستديرون بالبيت فيكون وجوه البعض إلى البعض فلا بدّ من استقبال النساء من حيث صلّوا (٢).
المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (مَقامِ إِبْراهِيمَ).
فيه قولان :
أحدهما ـ أنه الحجر المعهود ، وإنما جعل آية للناس ؛ لأنه جماد صلد وقف عليه إبراهيم ، فأظهر الله فيه أثر قدمه آية باقية إلى يوم القيامة.
الثاني ـ قال ابن عباس : (مَقامِ إِبْراهِيمَ) هو الحجّ كلّه ؛ وهذا بيّن ، فإنّ إبراهيم قام بأمر الله سبحانه ، ونادى بالحجّ عباد الله ، فجمع الله العباد على قصده ، وكانت شرعة من عهده ، وحجّة على العرب الذين اقتدوا به من بعده.
وفيه من الآيات أنّ من دخله خائفا عاد آمنا ؛ فإنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته ، وصرف الأيدى عن إذايته ، وجمعها على تعظيم الله تعالى وحرمته.
وهذا خبر عمّا كان ، وليس فيه إثبات حكم ، وإنما هو تنبيه على آيات ، وتقرير نعم متعدّدات ، مقصودها وفائدتها وتمام النعمة فيه بعثه محمدا صلّى الله عليه وسلّم ؛ فمن لم يشهد هذه الآيات ويرى ما فيها من شرف المقدّمات لحرمة (٣) من ظهر من تلك البقعة فهو من الأموات.
المسألة الخامسة ـ قال أبو حنيفة : إنّ من اقترف ذنبا واستوجب به حدّا ، ثم لجأ إلى الحرم عصمه ؛ لقوله تعالى (٤) : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً). فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله ، وروى ذلك عن جماعة من السلف ، منهم ابن عباس وغيره من الناس.
__________________
(١) في ابن كثير : بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها.
(٢) لم يذكر القول الثالث.
وفي ابن كثير أقوال أخرى منها : بكة : البيت والمسجد. أو البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة. (١ ـ ٣٨٣).
(٣) هكذا في كل الأصول.
(٤) الآية السابعة والتسعون.