وكلّ من قال هذا فقد وهم من وجهين :
أحدهما ـ أنه لم يفهم معنى الآية أنه خبر عما مضى ، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل.
الثاني ـ أنه لم يعلم أنّ ذلك الأمن قد ذهب ، وأنّ القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها ، وخبر الله سبحانه لا يقع بخلاف مخبره ؛ فدلّ على أنه في الماضي.
هذا ، وقد ناقض أبو حنيفة فقال : إنه لا يطعم ولا يسقى ولا يعامل ولا يكلّم حتى يخرج ، فاضطراره إلى الخروج ليس يصحّ معه أمن.
وروى عنه أنه قال : يقع القصاص في الأطراف في الحرم ، ولا أمن أيضا مع هذا ، وقد مهّدناه في مسائل الخلاف.
المسألة السادسة ـ قال بعضهم : من دخله كان آمنا من النار ؛ ولا يصحّ هذا على عمومه ، ولكنه من حجّ فلم يرفث (١) ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، والحج المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة. قال ذلك كلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؛ فيكون تفسيرا للمقصود ، وبيانا لخصوص العموم ، إن كان هذا القصد صحيحا.
هذا ، والصحيح ما قدمناه من أنه قصد به تعديد النعم على من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب ، كما قال تعالى (٢) : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ).
الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).
فيها إحدى عشرة المسألة :
المسألة الأولى ـ قال علماؤنا : هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب ، إذا قال العربي : لفلان علىّ كذا فقد وكّده وأوجبه.
قال علماؤنا : فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب ؛ تأكيدا لحقّه ، وتعظيما لحرمته ، وتقوية لفرضه.
__________________
(١) الرفث : الفحش من القول.
(٢) سورة العنكبوت ، آية : ٦٧
(٣) من الآية السابعة والتسعين.