المسألة الخامسة ـ إذا ثبت أنه لا يتعيّن لامتثال الخطاب إلا فعلة واحدة من الفعل المأمور به فقد اختلف العلماء ؛ هل هي على الفور أم هي مسترسلة على الزمان إلى خوف الفوت؟ ذهب جمهور البغداديين إلى حملها على الفور. ويضعف عندي.
واضطربت الروايات عن مالك في مطلقات ذلك.
والصحيح عندي من مذهبه أنه لا يحكم فيه بفور ولا تراخ كما تراه ؛ وهو الحقّ ، وقد بيناه في أصول الفقه.
المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (عَلَى النَّاسِ) عامّ في جميعهم ، مسترسل على جميعهم من غير خلاف بين الأمّة في هذه الآية ، وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات ، بيد أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم ، خلا الصغير ؛ فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف ، فلا يقال فيه : إنّ الآية مخصوصة فيه ، وكذا العبد لم يدخل فيها ؛ لأنه أخرجه عن مطلق العموم الأول قوله سبحانه في تمام الآية : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، والعبد غير مستطيع ؛ لأنّ السيد يمنعه بشغله بحقوقه عن هذه العبادة ؛ وقد قدّم الله سبحانه حقّ السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم.
ولا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة ، ولا نهرف (١) بما لا نعرف ، ولا دليل عليه إلا الإجماع.
(توجيه وتعليم) ـ تساهل بعض علمائنا فقال : إنما لم يثبت الحجّ على العبد وإن أذن له السيد لأنه كان كافرا في الأصل ، ولم يكن حجّ الكافر معتدّا به ، فلما ضرب عليه الرقّ ضربا مؤبّدا لم يخاطب بالحج ، وهذا فاسد ـ فاعلموه ـ من ثلاثة أوجه :
أحدها ـ أنّ الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة ، ولا خلاف فيه في قول مالك وإن خفى ذلك على الأصحاب.
الثاني ـ أنّ الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه.
الثالث ـ أنّ سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقا ، ولو فعلها في حال
__________________
(١) الهرف : شبه الهذيان.