قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا) ، لمّا حثّهم على الصّدقات والنّفقات ، دلّهم على خير من تصدّق عليه. وقد تقدّم تفسير الإحصار عند قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) (١).
وفي المراد ب (الَّذِينَ أُحْصِرُوا) أربعة أقوال : أحدها : أنّهم أهل الصّفّة حبسوا أنفسهم على طاعة الله ، ولم يكن لهم شيء ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : أنهم فقراء المهاجرين ، قاله مجاهد. والثالث : أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو ، فلا يقدرون على الاكتساب ، قاله قتادة. والرابع : أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النّبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فصاروا زمنى. قاله سعيد بن جبير ، واختاره الكسائيّ ، وقال : أحصروا من المرض ، ولو أراد الحبس ، لقال : حصروا ، وإنّما الإحصار من الخوف ، أو المرض. والحصر : الحبس في غيرهما. وفي سبيل الله قولان : أحدهما : أنه الجهاد. والثاني : الطّاعة. وفي الضّرب في الأرض قولان : أحدهما : أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم ، نقل عن ابن عباس. والثاني : الكسب ، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال : أحدها : الفقر ، قاله ابن عباس. والثاني : أمراضهم ، قاله ابن جبير ، وابن زيد. والثالث : التزامهم بالجهاد ، قاله الزجّاج.
قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) ، قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، والكسائيّ : «يحسبهم» و «يحسبنّ» بكسر السين في جميع القرآن. وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، بفتح السين في الكلّ. قال أبو عليّ : فتح السين أقيس ، لأن الماضي إذا كان على «فعل» ، نحو : حسب ، كان المضارع على «يفعل» ، مثل : فرق يفرق ، وشرب يشرب ، والكسر حسن لموضع السّمع. قال ابن قتيبة : لم يرد الجهل الذي هو ضدّ العقل ، إنما أراد الجهل الذي هو ضدّ الخبر ، فكأنه قال : يحسبهم من لا يخبر أمرهم. والتّعفّف : ترك السؤال ، يقال : عفّ عن الشيء وتعفّف. والسّيما : العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصله من السّمة. وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال : أحدها : تجمّلهم ، قاله ابن عباس. والثاني : خشوعهم ، قاله مجاهد. والثالث : أثر الفقر عليهم ، قاله السّدّيّ والرّبيع بن أنس. وهذا يدلّ على أن للسّيما حكما يتعلّق بها. قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب ، ولا يعرف أمره : ينظر إلى سيماه ، فإن كان عليه سيما الكفّار من عدم الختان ، حكم له بحكمهم ، فلم يدفن في مقابر المسلمين ، ولم يصلّ عليه ، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم (٢). فأما الإلحاف ، فهو : الإلحاح ، قال ابن قتيبة : يقال : ألحف في المسألة : إذا ألحّ ، وقال الزجّاج : معنى ألحف : شمل بالمسألة ، ومنه اشتقاق اللّحاف ، لأنه يشمل الإنسان بالتّغطية ، فإن قيل : فهل كانوا يسألون غير
__________________
(١) البقرة : ١٩٦.
(٢) قال الإمام الموفّق رحمهالله في (المغني) ٣ / ٤٧٧ : فإن اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين ، فلم يميزوا ، صلّى على جميعهم بنية المسلمين. قال أحمد : ويجعلهم بينه وبين القبلة ، ثم يصلي عليهم وإلا فلا ، لأن الاعتبار بالأكثر ، بدليل أن دار المسلمين الظاهر فيها الإسلام ، لكثرة المسلمين بها ، وعكسها دار الحرب ، لكثرة من بها من الكفار. ولنا ، أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر ، فوجب ، كما لو كانوا أكثر ، ولأنه إذا جاز أن يقصد بصلاته ودعائه الأكثر ، جاز قصد الأقل وإن وجد ميت ، فلم يعلم أمسلم هو أم كافر ، نظر إلى العلامات من الختان ، والثياب والخضاب ، فإن لم يكن عليه علامة ، وكان في دار الإسلام ، غسّل وصلّي عليه ، وإن كان في دار الكفر ، لم يغسّل ، ولم يصلّ عليه. نصّ عليه أحمد ، لأن الأصل أنّ من كان في دار فهو من أهلها ، يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل.