وفي المتشابه سبعة أقوال : أحدها : أنه المنسوخ ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والسّدّيّ في آخرين. والثاني : أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل ، كقيام السّاعة ، روي عن جابر بن عبد الله. والثالث : أنه الحروف المقطّعة كقوله : «الم» ونحو ذلك ، قاله ابن عباس. والرابع : أنه ما اشتبهت معانيه ، قاله مجاهد. والخامس : أنه ما تكررت ألفاظه ، قاله ابن زيد. والسادس : أنه ما احتاج إلى بيان ، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد. وقال الشّافعيّ : ما احتمل من التّأويل وجوها. وقال ابن الأنباريّ : المحكم ما لا يحتمل التأويلات ، ولا يخفى على مميّز ، والمتشابه : الذي تعتوره تأويلات. والسابع : أنه القصص والأمثال ، ذكره القاضي أبو يعلى.
فإن قيل : فما فائدة إنزال المتشابه ، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبة :
أحدها : أنه لما كان كلام العرب على ضربين : أحدهما : الموجز الذي لا يخفى على سامعه ، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني : المجاز ، والكنايات ، والإشارات ، والتّلويحات ، وهذا الضّرب الثاني هو المستحلى عند العرب ، والبديع في كلامهم ، أنزل الله تعالى القرآن على هذين الضّربين ، ليتحقق عجزهم عن الإتيان بمثله ، فكأنه قال : عارضوه بأيّ الضّربين شئتم ، ولو نزل كلّه محكما واضحا ، لقالوا : هلّا نزل بالضّرب المستحسن عندنا؟ ومتى وقع الكلام إشارة أو كناية ، أو تعريض أو تشبيه ، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس :
ما ذرفت عيناك إلّا لتضربي |
|
بسهميك في أعشار قلب مقتّل |
فجعل النظر بمنزلة السّهم على جهة التشبيه ، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد ، وزاد في بلاغته ، وقال امرؤ القيس أيضا :
رمتني بسهم أصاب الفؤاد |
|
غداة الرّحيل فلم أنتصر |
وقال أيضا :
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه |
|
وأردف أعجازا وناء بكلكل (١) |
فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه ، فحسن بذلك شعره. وقال غيره :
من كميت أجادها طابخاها |
|
لم تمت كلّ موتها في القدور |
أراد بالطّابخين : الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر :
تبكي هاشما في كلّ فجر |
|
كما تبكي على الفنن الحمام |
وقال الآخر :
عجبت لها أنّى يكون غناؤها |
|
فصيحا ولم تفتح بمنطقها فما |
فجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة.
والجواب الثاني : أنّ الله تعالى أنزله مختبرا به عباده ، ليقف المؤمن عنده ، ويردّه إلى عالمه ، فيعظم بذلك صوابه ، ويرتاب به المنافق ، فيداخله الزّيغ ، فيستحق بذلك العقوبة ، كما ابتلاهم بنهر
__________________
(١) في «اللسان» : الكلكل من الفرس : ما بين محزمه إلى ما مسّ الأرض منه إذا ربض وقد يستعار الكلكل لما ليس بجسم في صفة الليل.