طالوت. والثالث : أن الله تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردّهم المتشابه إلى المحكم فيطول بذلك فكرهم ، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم فيثابون على تعبهم ، كما أثيبوا على سائر عباداتهم ، ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل ، ولم يفضل العالم على غيره ، ولماتت الخواطر ، وإنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم ، وقد قال الحكماء : عيب الغنى : أنه يورث البلادة ، وفضل الفقر : أنه يبعث على الحيلة ، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع : أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة ، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلّمون ، ويمرّونهم على انتزاع الجواب ، لأنهم إذا قدروا على الغامض ، كانوا على الواضح أقدر ، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء ، جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من المتشابه على هذا النّحو ، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة وابن الأنباريّ.
قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) في الزيغ قولان : أحدهما : أنه الشّكّ ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أنه الميل ، قاله أبو مالك ، وعن ابن عباس كالقولين ، وقيل : هو الميل عن الهدى. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال : أحدها : أنهم الخوارج ، قاله الحسن. والثاني : المنافقون ، قاله ابن جريج. والثالث : وفد نجران من النصارى ، قاله الرّبيع. والرابع : اليهود ، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمّة من حساب الجمّل ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قال ابن عباس : يحيلون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون. وقال السّدّيّ يقولون : ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا ، ثم نسخت. وفي المراد بالفتنة هاهنا ، ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الكفر ، قاله السّدّيّ ، والرّبيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة. والثاني : الشّبهات ، قاله مجاهد. والثالث : إفساد ذات البين ، قاله الزجّاج. وفي التأويل وجهان : أحدهما : أنه التّفسير. والثاني : العاقبة المنتظرة. والرّاسخ : الثّابت ، رسخ يرسخ رسوخا.
وهل يعلم الرّاسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان (١) : أحدهما : أنهم لا يعلمونه ، وأنهم مستأنفون ،
__________________
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمهالله في «تفسيره» ١ / ٣٤٦ : وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) اختلف القراء في الوقف هاهنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء ، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلّا الله ... وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا أخاف على أمتي إلّا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) الآية وأن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يسألون عنه» غريب جدا ...
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به» وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : كان ابن عباس يقرأ (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون آمنا به). وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : (إن تأويله إلّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) وكذا عن أبي بن كعب. ومنهم من يقف على قوله (والراسخون في العلم) وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روي عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : (وما يعلم تأويله) الذي أراد ما أراد (إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا