لم تتيقّن صحّة قوله ، لأنها لم تعلم أنه ملك ، فلذلك قالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) ، قاله ابن الأنباريّ. قوله تعالى : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي : ولم يقربني زوج. والمسّ : الجماع ، قاله ابن فارس. وسمّي البشر بشرا ، لظهورهم ، والبشرة : ظاهر جلد الإنسان ، وأبشرت الأرض : أخرجت نباتها. وبشرت الأديم : إذا قشرت وجهه ، وتباشير الصّبح : أوائله. قال : يعني جبريل : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : بسبب ، وبغير سبب. وباقي الآية مفسّر في «البقرة».
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨))
قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) قرأ الأكثرون «ونعلمه» بالنون. وقرأ نافع ، وعاصم بالياء ، فعطفاه على قوله «يبشرك». وفي الكتاب قولان : أحدهما : أنه كتب النّبيين وعلمهم ، قاله ابن عباس. والثاني : الكتابة ، قاله ابن جريج ومقاتل. قال ابن عباس : والحكمة الفقه وقضاء النّبيين.
(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))
قوله تعالى : (وَرَسُولاً) قال الزجّاج : ينتصب على وجهين : أحدهما : ونجعله رسولا ، والاختيار عندي : ويكلّم النّاس رسولا.
قوله تعالى : (أَنِّي أَخْلُقُ) قرأ الأكثرون «أنّي» بالفتح ، فجعلوها بدلا من آية ، فكأنه قال : قد جئتكم بأنّي أخلق ، وقرأ نافع بالكسر ، قال أبو عليّ (١) : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون مستأنفا. والثاني : أنه فسّر الآية بقوله : إني أخلق ، أي : أصوّر وأقدر. قال ابن عباس : أخذ طينا ، وصنع منه خفّاشا ، ونفخ فيه ، فإذا هو يطير ، ويقال : لم يصنع غير الخفّاش ، ويقال : إنّ بني إسرائيل نعتوه بذلك ؛ لأنّ الخفّاش عجيبة الخلق. وروي عن أبي سعيد الخدريّ أنه قال لهم : ما ذا تريدون؟ قالوا : الخفّاش. فسألوه أشدّ الطير خلقا ، لأنه يطير من غير ريش. وقال وهب : كان الذي صنعه يطير ما دام النّاس ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم ، سقط ميتا ، ليتميّز فعل الخلق من فعل الخالق. والأكثرون قرءوا (فَيَكُونُ طَيْراً) وقرأ نافع هاهنا وفي (المائدة) «طائرا» قال أبو عليّ : حجّة الجمهور قوله تعالى : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) ولم يقل : كهيئة الطائر. ووجهة قراءة نافع ، أنه أراد : يكون ما أنفخ فيه ، أو ما أخلقه ، طائرا.
وفي «الأكمه» أربعة أقوال : أحدها : أنه الذي يولد أعمى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وسعيد عن قتادة ، وبه قال اليزيديّ ، وابن قتيبة ، والزجّاج. والثاني : أنه الأعمى ، ذكره ابن جريج عن ابن عباس ، ومعمر عن قتادة ، وبه قال الحسن ، والسّدّيّ ، وحكى الزجّاج عن الخليل أن الأكمه : هو الذي يولد أعمى ، وهو الذي يعمى ، وإن كان بصيرا. والثالث : أنه الأعمش ، قاله عكرمة. والرابع : أنه الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، قاله مجاهد والضّحّاك.
__________________
(١) هو الفارسي النحوي صاحب كتاب «الحلبيات» في اللغة والأدب.