إنما يسيئون من حيث لا يدرون إلى مقام النبىّ الكريم ، بهذه الألوان الصارخة من الخيال ، الذي يلقونه على صورته الكريمة ، فيطمسون معالمها ، ويشوّهون حقيقتها ، فلا يمسك منها النظر ، أو العقل ، أو الخيال ، إلا بظلال باهتة متراقصة ، يموج بعضها في بعض ، فلا تستبين فيها حقيقة لمخلوق ، من أهل الأرض ، أو عالم السماء ، وإنما هى أمشاج مختلطة ، من خيالات وأوهام ...! (١)
إن عظمة «محمد» فى أنه بشر كامل البشرية .. ولد من أب وأم .. وحملت به أمه تسعة أشهر ، وأرضع في البادية كما يرضع الأطفال ، وعاش كما يعيش أطفال قومه ، وصبيانهم ، وشبّانهم ، ورجالهم .. وإن كان ذلك على أحسن صورة يراها الناس في إنسان ، ويتمنّونها لهم ، ولأبنائهم ..
فلما كرّم الله سبحانه وتعالى محمدا بالرسالة ، لم تقطعه هذه الرسالة عن حاله الأولى ، ولم ير فيه الناس غير ما يرون ، بل إنه لم يأتهم بخارقة من الخوارق ، أو معجزة من المعجزات ، يملكها في يده ، وإنما جاءهم بآيات هى كلمات الله ، مضافة إلى الله سبحانه ، ومنسوبة إليه جلّ شأنه .. وما محمد إلا مبلغ لهذه الكلمات ، وليس له منها إلا ما للناس جميعا ، من الاهتداء بنورها ، والامتثال لأمرها ونهيها .. فكان ذلك أعظم توكيد وأبلغه ، للدلالة على بشرية الرسول من جهة ، وعلى أن ابن الماء والطين يحمل في كيانه من قوى الخير ، ومشاعل النور ، ما يرتفع به إلى أعلى عليين ، وأن الطريق مفتوح إلى مالا حدود له من الكمالات ، أمام الإنسان .. وأمامه المثل الأعلى للإنسان .. في محمد ـ «صلوات الله وسلامه عليه» ..
__________________
(١) انظر بحثنا في هذا عن «الحقيقة المحمدية .. وما يقال فيها» في الكتاب الثامن من هذا التفسير.