وفى هذه القصة ، يشير القرآن إشارة لامحة إلى أن داود لم يعرف كيف يفصل فى هذه القضية ، أو أنه فصل فيها فصلا لم يصب مقطع الحق منها .. وهذا لا يعيب داود عليهالسلام ، ولا ينقص من قدره ، لأنه فصل بما أدى إليه اجتهاده .. فإذا أخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران .. هذا هو حكم المجتهد ، الذي تجرد من هواه .. ولا شك أن داود كان أبعد ما يكون عن الهوى.
ففى قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) إشارة إلى أن سليمان هو الذي عرف وجه الحق فى هذه القضية ، ووقع على الرأى الصحيح فيها .. وذلك بفهم آتاه الله سبحانه وتعالى إياه .. كما يقول سبحانه : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) وقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) هو تعقيب على قوله تعالى (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) الذي قد يفهم منه أن سليمان قد أوتى فهما من الله وأن داود قد حرم هذا الفهم ، فكان ذلك دافعا لهذا الوهم .. إذ أن كلّا من داود وسليمان ، قد لبس من فضل الله ومن إحسانه حللا ، وأن كلّا منهما قد أوتى من الله حكما وعلما .. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أكثر علما من الآخر ، فالعلم درجات لا حدود لها ؛ والله سبحانه وتعالى يقول : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦ : يوسف).
والقرآن الكريم لم يكشف عن تفاصيل هذه القضية. ولم يتحدث عن الحكم الذي حكم به داود فيها ، ولا عن وجهة نظر سليمان فيما حكم به أبوه .. ذلك أن كل هذا لا يقدّم شيئا فى تحقيق الغاية التي جاءت لها القصة ، وهو أن الفصل فى الخصومات بين الناس أمر خطير ، يحتاج إلى علم واسع ، وبصيرة نافذة ، ونفس تجردت من كل هوى ، وإلا كان الخطأ والزلل ، الذي من شأنه إن شاع أفسد حياة الناس ، وأغرى بعضهم ببعض .. ومن جهة أخرى