فى سبيل الله .. يقوم ليله ، ويصوم نهاره .. وما شبع من طعام قط ، ولا نام إلا على حشية من ليف .. وهو الذي كان يستطيع ـ لو أراد ـ أن يأكل فى صحاف من ذهب ، وأن ينام على فراش من حرير .. فكان خاتم الأنبياء وصفوة الخلق ..
وهكذا نجد الابتلاء بالضراء أرجح كفة من الابتلاء بالسراء ، فى ميزان الصياغة لمعادن الرجال ، وصبّهم فى قوالب الكمال والإحسان .. ولهذا كان أولو العزم من الرسل ، هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان ، وأثقل ابتلاء ..
وثالثا : الابتلاء بالشرّ ليس ضربة لازب لأولياء الله وأحبابه وأصفيائه ، ولكنه الشأن الغالب عليهم ، لأن ذلك أشكل بطبيعتهم ، وأقرب إلى نفوسهم ، لأنهم كلما ازدادوا من الله قربا انكشف لهم أمر الدنيا ، ومتاعها الغرور ، فنظروا إليها نظرة استخفاف واستصغار ، لكل ما فيها ومن فيها ، ثم إذا هم رأوا تكالب الناس وتزاحمهم على مواردها ، زادهم ذلك إحقارا لها ، وبعدا عنها.
فهذا الذي نرى فيه أولياء الله وأصفياءه ، من فاقة ، وضرّ ، وحرمان ، ونعدّه بلاء أو ابتلاء ، هو ـ فى الواقع ـ مطلب لتلك النفوس العظيمة ، ورغبة محببة لهذه القمم العالية من عباد الله ..
إنهم يزهدون فيما تطلبه النفوس ، راضين .. وإنهم ليجدون فى الحرمان ، من الغبطة والرضا ، ما لا يجده الواجدون من متع الحياة ومسراتها ..
وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها ، ويطيب لها .. وشتان بين الكلاب والأسود .. حيث تتقاتل الكلاب على الجيف ، على حين تموت الأسود جوعا ولا تدنو منها ..