لمصلحتهم وأقرب إلى التفاهم والحجاج. فقد أنكروا كون الرسول بشرا منهم أولا ، ثم قالوا له : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) أي صدّقك وتابعك على أمرك (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) يعني السفلة ولم يتّبعك الأشراف والرؤساء بل الأخسّة الدنيئون (بادِيَ الرَّأْيِ) أي للفور ودون أن يتدبّروا قولك ، أو المقصود أنهم اتّبعوك في ظاهر الأمر وهم يبطنون خلافك. وقرئ : بادئ الأمر ، أي ابتداء ودون تفكير (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي ليس لك ولمن تبع مقالتك من إفضال علينا لا في المال ولا في جاه الدنيا ولا في النسب والشرف ، وسها عن بالهم إفضاله بدعوتهم ليخلصوا من الكفر إلى الإيمان إذ أبطرهم أنهم أرباب دنيا فهزءوا من أهل الدّين ونظروا إليهم نظرة ازدراء واسترذال ، وعقّبوا قائلين : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي نحسبكم غير صادقين فيما أنتم عليه.
٢٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ ...) أي قال نوح (ع) : يا قوم وقد حذفت الياء للنداء ونابت عنها الكسرة ، أتظنّون أني كاذب؟ ما رأيكم إن كانت دعوتي مبنيّة (عَلى بَيِّنَةٍ) برهان من ربي يصدّق نبوّتي (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ) أي أعطاني نعمة جزيلة هي النبوّة التي نزلت عليّ من عنده ، ثم عاندتم ذلك وكفرتم به (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) دعوتي (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي : أنكرهكم بها ونلجئكم إلى الإيمان إلجاء؟ ليس ذلك بمقدوري ولكني أدلّكم على طريق الحق بالبيّنة والبرهان ولست مطالبا باضطراركم إلى ذلك اضطرارا فأنتم الذين تختارون. أما لفظة (أَنُلْزِمُكُمُوها) ففيها ثلاثة ضمائر هي : ضمير المتكلم وهو المستتر ، وضمير المخاطب وهو (كم) وضمير الغائب وهو (ها) وقد جاءت على أحسن ترتيب إذا بدأ بالمتكلم الذي ترمز إليه (ن : نون المضارعة) لأن ضمير المتكلم هو الأخص بالفعل ، ثم بالمخاطب لأنه هو المعنيّ ، ثم بالغائب الذي هو الموضوع.
وليس أبلغ ولا أفصح ولا أجمل من هذا الذي نجده في القرآن لمثل هذا الفعل الثلاثي (لزم) الذي عدّي بالهمز (ألزم) ثم صرّف في المضارع