في آية : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ، وإما لجهة أن السماء أشرف من الأرض بعددها ، وبطبقاتها ، ولأن فوقها العرش وما حوله ، واللوح والقلم ، ودونها الشمس والقمر والكواكب وسائر المجرّات ، وفيها الملائكة المقرّبون ، ومنها تنزل الرحمة الإلهية بأنواعها ، وتهطل الأمطار في أوقاتها ، وتجري الفيوضات الربّانية والخيرات التي لا تحصى. فاقتضت هذه المذكورات وغيرها جمع لفظ : السماء من جهة ، وتقديم ذكرها على الأرض من جهة ثانية. فالحمد لهذا الرب القادر الذي اخترع ذلك كلّه على غير مثال سبقه (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي صيّرهما موجودين. والفرق بين الخلق والجعل أن الأول اختراع وإيجاد لا من شيء كان قبله بل بكلمة : كن ، والثاني هو التصيير : أي إيجاد الشيء من شيء بحسب المشهور بين أعلام الكلام ، وقد يكون الحق خلاف ذلك أعني أن الخلق يجيء أيضا بمعنى التصيير نحو قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ، أو : من منيّ يمنى ، أو : من ذكر وأنثى. ففي جميع ذلك تدل لفظة : من ، على إنشاء شيء من شيء ، لا على إيجاد ذلك الشيء فقط بكلمة : كن التكوينية ، حتى أن آدم أبا البشر (ع) قد «خلقه» الله تعالى ، من ماء وطين ، أي صيّره كائنا من ذلك. فالخلق أعمّ على كل حال.
وقد جمع جلّ شأنه الظلمات دون النور لأن الأجرام الفضائية تكاد لا تعدّ ولا تحصى لكثرتها ، ولكلّ جرم منها ظلّ ، فأشار سبحانه إلى جميع تلك الظلال «الظلمات» الكثيرة للأسباب التي ذكرناها ، بخلاف النور الذي له سبب واحد وهو عدم وجود الظّل ، لأنهما ضدّان لا ثالث لهما ، ويكون أحدهما إذا انعدم الثاني بتقدير العزيز الحكيم (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي بعد هذه القدرة الكاملة من خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، بقيت طائفة من الناس كفروا بخالق ذلك كله وعدلوا : أي مالوا عن المحجة البيضاء وابتعدوا غاية البعد عن الحق مع أن الحجة في غاية القوة والظهور ، وعدولهم عن جادة الصواب غير عقلائية لأن كل آية من هذه الآيات تكفي وحدها للإيمان به سبحانه ،