فتنازع القوم وتفاخروا حتّى دعوا بالسلاح. فبلغ النبيّ فخرج إليهم فقال : «أتدعون الجاهليّة بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة وألّف بينكم» ، فعرف القوم أنّها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا وانصرفوا معه ـ صلىاللهعليهوآله ـ.
قوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)
إذا أخذت بحبل أو ربط فمنعك عن السقوط أو ما يشبهه فقد عصمك ، فأصل العصمة هو المنع الخاصّ ، وإن ذكر في التاج أنّ : المنع هو الأصل في معناه ، (١) ونقل عن بعض أهل اللغة أنّ أصله الربط.
وكيف كان ، ففي معنى الاعتصام امتناع وأخذ ، فالمعتصم بالله كأنّه ممتنع عمّا لا يرتضيه الله سبحانه بالأخذ به تعالى.
ومن هنا يظهر أنّ الآية التالية وهي قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢) كالتفسير والبيان للإعتصام بالله.
ومن هنا يظهر أيضا أنّ الإعتصام بالله كالإيمان وسائر المقامات الدينيّة ، أمر ذو مراتب ومبادئ مراتبه اكتسابيّة ، وينتهي إلى أن يكون العاصم للعبد من الذنب والمعصية هو الله عزّ اسمه من غير توسّط شيء من القوى المتعلّقة بالنفس ؛ إذ ما دام للفعل تعلّق بشيء من القوى النفسانيّة البدنيّة من حيث ترجيح الفعل والترك ، فالطرفان متساويان من غير تحقّق وجوب لأحد الطرفين وامتناع للآخر ، فليس امتناع المعصية إلّا أنّه سبحانه هو المدبّر لحال الإنسان
__________________
(١). تاج العروس ٨ : ٣٩٩.
(٢). آل عمران (٣) : ١٠٢.