ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتنسق أمر يعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع الخلق دونه ، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته فى شكله.
ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر لما رأوه منظوما او مرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه ، وقد كانوا يجدون له وقعا فى القلوب ، وقلاعا فى النفوس يرهبهم ويحيرهم ، فلم يتمالكوا ان يعترفوا به نوعا من الاعتراف ولذلك قالوا : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطوة ، وكانوا مرة بجهلهم يقولون : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، مع علمهم أن صاحبهم أمىّ وليس بحضرته من يملى أو يكتب فى نحو ذلك من الأمور التى أوجبها العناد والجهل والعجز.
وثمة فى إعجاز القرآن وجه ذهب عنه الناس ، وهو صنيعه فى القلوب وتأثيره فى النفوس ، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة فى حال ذوى الروعة والمهابة فى حال آخر ما يخلص منه إليه ، قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، وقال الله : (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).
وقد اختلف أهل العلم فى وجه إعجاز القرآن ، فذكروا فى ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة وصوابا ، وما بلغوا فى وجوه إعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره.
فقال قوم : هو الإيجاز مع البلاغة.
وقال آخرون : هو البيان والفصاحة.
وقال آخرون : هو الوصف والنظم.
وقال آخرون : هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر مع كونه حروفه فى كلامهم ومعانيه فى خطابهم وألفاظه من جنس كلماتهم ، وهو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم وجنس آخر متميز عن أجناس خطابهم ، حتى إن من اقتصر على معانيه وغير حروفه أذهب رونقه ، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته ، فكان فى ذلك أبلغ دلالة على إعجازه.